الخميس، 25 أكتوبر 2012

قمة في الروعة !!


حكى أنّ ثلاثة أشخاص حكم عليهم بالإعدام بالمقصلة


وهم : عالم دين ، محامي ، فيزيائي
وعند لحظة الإعدام تقدّم عالم الدين ووضعوا رأسه تحت المقصلة
وسألوه : هل هناك كلمة أخيرة توّد قولها ؟
فقال عالم الدين : الله ...الله.. الله... هو من سينقذني


وعند ذلك أنزلوا المقصلة ، فنزلت المقصلة وعندما وصلت لرأس عالم الدين توقفت
فتعجّب النّاس ، وقالوا : أطلقوا سراح عالم الدين فقد قال الله كلمته
ونجا عالم الدين
وجاء دور المحامي إلى المقصلة
فسألوه : هل هناك كلمة أخيرة تودّ قولها ؟
فقال : أنا لا أعرف الله كعالم الدين
ولكن أعرف أكثر عن العدالة ، العدالة ، العدالة
العدالة هي من سينقذني
ونزلت المقصلة على رأس المحامي ، وعندما وصلت لرأسه توقفت
فتعجّب النّاس ، وقالوا : أطلقوا سراح المحامي ، فقد قالت العدالة كلمتها

ونجا المحامي
وأخيرا جاء دور الفيزيائي
فسألوه : هل هناك كلمة أخيرة تودّ قولها ؟
فقال : أنا لا أعرف الله كعالم الدين
ولا أعرف العدالة كالمحامي
ولكنّي أعرف أنّ هناك عقدة في حبل المقصلة تمنع المقصلة من النزول


فنظروا للمقصلة ووجدوا فعلا عقدة تمنع المقصلة من النزول
فأصلحوا العقدة وانزلوا المقصلة على رأس الفيزيائي
وقطع رأسه
- وهكذا من الأفضل أن تبقي فمك مقفلا أحيانا
حتى وإن كنت تعرف الحقيقة

- من الذكاء أن تكون غبياً في بعض المواقف

الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

من ابطال وطن //

قـصـة بـعـنـوان :- عـمـر الـمـخـتـار

سأله الضابط:هل حاربت الدولة الايطالية...؟
عمر:نعم
وهل شجعت الناس على حربها؟
_نعم
وهل أنت مدرك عقوبة مافعلت؟
_نعم
وهل تقر بماتقول؟
_نعم
منذ كم سنة وأنت تحارب السلطات الايطالية؟

_منذ20 سنة

هل أنت نادم على مافعلت؟

لا

هل تدرك أنك ستعدم؟

_نعم

_فيقول له القاضي بالمحكمة:

أنا حزين بأن تكون هذه نهايتك

فيرد عمر المختار:
_بل هذه أفضل طريقة أختم بها حياتي...........
_فيحاول القاضي أن يغريه فيحكم عليه بالعفو العام مقابل أن يكتب للمجاهدين أن يتوقفوا عن جهاد الأيطاليين ,فينظر له عمر ويقول كلمته المشهورة:

(ان السبابة التي تشهد في كل صلاة أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ,لايمكن أن تكتب كلمة باطل).

الاثنين، 22 أكتوبر 2012

حكم انتقاد الحاكم بالأسلام !!

بعد هذا الربيع العربي الذي تولد عنه الربيع الاسلامي الكريم في انتظار الربيع السني الجليل تغيرت كثير من المفاهيم وولى زمان الديكتاتوريات في العالم العربي والإسلامي والحمد لله رب العالمين وصار الكلام على الديكتاتوريين بين عامة الناس أمرا عاديا بين الناس إلا أن هناك طوائف من خاصة المسلمين ، كثير منهم طلبة علم وفيهم خير كثير ، لا يزالون في تهيب من قضية الرد على انحرافات السلاطين وظلمهم للرعية ويستدلون على ذلك ببعض الأحاديث الضعيفة التي تأمر بالنصح للأمراء سرا وأن الانتقاد أمام لملأ فضيحة كما يقولون ، وأنا في هذه العجالة أريد أن أبين أن انتقاد الولاة على رؤوس الأشهاد طريقة معروفة عند السلف الكرام لم ينكرها عليهم أحد منهم واستنادهم في ذلك على قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان ) .
1 ـ جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله 2/408 : ( عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما ولي عمر قيل له: لقد كاد بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك . قال : وماذاك ؟ قال :
 يزعمون أنك فظ غليظ . قال الحمد الذي ملأ قلبي لهم رحما وملأ قلوبهم لي رعبا ) . فلم يقل لهم : لا يجوز لكم أن تنتقدوا ولي الأمر عمر أو تتكلمو فيه بسوء .
2 ـ روى الإمام مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ـ باب بَيَانِ كَوْنِ النَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ مِنَ الإِيمَانِ وَأَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبَانِ. عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ :
 أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ مَرْوَانُ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : الصَّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ. فَقَالَ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ ـ الخدري رضي الله عنه ـ أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ». ففي هذا الحديث دليل على جواز الإنكار على الولاة ولو في ملأ من الناس لأن اليوم الذي أنكر فيه الرجلُ على مروان بن الحكم الأموي كان يوم عيد وفي صلاة العيد حيث يشهدها الألوف من الناس وبحضور الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي فهم الفهم الصحيح لحديث : ( من رأى منكم منكرا فليغيره ..) وأنه يشمل الحاكم والمحكوم وأنه لا يشترط في النصيحة أن تكون سرا لأنه لم يُنكر على الرجل قيامه إلى مروان أمام الناس مما يدل على أن هذا أمر معروف عند السلف : أن ينصح الحاكم وينتقده ولو في ملأ من الناس .
ثم ساق الإمام مسلم رحمه الله بسنده ـ رقم : 50 ـ ما ئؤكد هذا الذي فهمه أبو سعيد الخدري ألا وهو حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. عَنْ أَبِى رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «
 مَا مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ ». وهو حديث يدل على جهاد الحكام باليد واللسان ولو أمام الملأ ومن أقوى الأدلة على هذا أن عبد الله بن عمر لما سمع أبارافع يحدث عن عبد الله بن مسعود بهذا الحديث أنكره عليه لما يعلمه عبد الله بن عمر أن الحكام لا يجوز انتقادهم ـ كما هو مذهبه ـ قال مسلم رحمه الله بعد ذكر الرواية : قَالَ أَبُو رَافِعٍ فَحَدَّثْتُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَأَنْكَرَهُ عَلَىَّ فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَزَلَ بِقَنَاةَ فَاسْتَتْبَعَنِى إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا جَلَسْنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ.
3 ـ وروى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ ، في كتاب البيوع ، باب بيع الذهب بالفضة تبرا أو عينا ، برقم : 1960 عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَاعَ سِقَايَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ مَا أَرَى بِمِثْلِ هَذَا بَأْسًا 
فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنَا أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا ، ثُمَّ قَدِمَ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لَا تَبِيعَ ذَلِكَ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ . أخرجه النسائي 4572 واحمد 6/448 برقم : 28081 والبيهقي 10494.
في هذه القصة ينكر أبو الدرداء على معاوية رضي الله عنه وهو الأمير على الشام من قبل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان كما في الطبقات الكبرى لابن سعد 7/406 ينكر عليه مسألة تعامله بالربا ـ متأولاـ في جمع من الناس بدليل تحوُّل الخطاب في قوله : ( 
من يعذرني من معاوية ؟ ) مع قوله : ( لا أساكنك بأرض أنت فيها ) وخرج فعلا من الشام وقدم على عمر وأخبره الخبر .
أبو الدرداء أنكر على معاوية في ملأ من الناس أمرا له فيه تأويل وشبهة فكيف بمن بعمل المنكرات الظاهرة ويشيعها في الأمة ، تلك المنكرات التي لا يختلف على نكارتها إنس ولا جان ؟
4 ـ وفي الصحيحين عن جابر بنِ سُمْرَةَ رضي الله عنهما ، قَالَ :
 شَكَا أهْلُ الكُوفَةِ سَعْداً يعني : ابنَ أَبي وقاص - رضي الله عنه - ، إِلَى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فَعَزَلَهُ ، واسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّاراً ، فَشَكَوا حَتَّى ذَكَرُوا أنَّهُ لا يُحْسِنُ يُصَلِّي ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أَبَا إسْحَاقَ ، إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعَمُونَ أنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي ، فَقَالَ : أَمَّا أنا واللهِ فَإنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا أُخْرِمُ عَنْها ... ) الحديث أخرجه : البخاري 1/192 (755) ، ومسلم 2/38 (453) (158) وليس في هذه القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهاهم عن الشكوى من الأمير وهو من هو ؟ سعد بن أبي وقاص ، خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد المبشرين بالجنة وزعيم القادسية رضي الله عنه وأرضاه ، ولو جاز منع انتقاد الحكام والأمراء ـ فضلا عن أن يكونوا ظلمة ـ لجاز ذلك لعمر بن الخطاب لأن يمنع أهل الكوفة من انتقاد سعد المبشر بالجنة ، فكيف يُمنع انتقاد الولاة الظلمة الذين لا يحكمون بالقرآن والسنة ؟ ولاشك أن هذه الشكاوى والانتقادات قد فشت بينهم في الكوفة حتى أرسلوها لعمر بن الخطاب ، فلم ينههم عن انتقاده برغم أنه غير متهم كما قال عمر ـ نفسُه ـ يوم عيَّن ستة نفر للخلافة ومنهم سعد وقال : ( فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ) رواه البخاري 3497 وغيره . ومع ذلك كله عزله ولم ينه أهل الكوفة عن انتقاد الولاة .
5 ـ بل إن عمر بن الخطاب نفسه قامت إليه امرأة تنكر عليه وهو يخطب ولم ينكر عليها ، ولم يقل لها : إن النصيحة للحاكم لا تكون إلا سرا ،قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره 99/5 : ( خطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله،صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية.
فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: (وآتيتم احداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) ؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر !. وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ.وترك الانكار. ) إهـ بلفظه .
6 ـ جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله تعالى : 456/4 ط دار الحديث المصرية في ترجمة
حجر بن عدي : قال الذهبي رحمه الله : ( حجر الخير... أبو عبد الرحمن الشهيد ، له صحبة ووفادة...وكان شريفا، أميرا مطاعا، أمارا بالمعروف، مقدما على الانكار، من شيعة علي رضي الله عنهما.شهد صفين أميرا، وكان ذا صلاح وتعبد.) ثم قال الذهبي : ( قيل: كذَّب زياد بن أبيه متولي العراق وهو يخطب، وحصبه مرة أخرى، فكتب فيه إلى معاوية.فعسكر حجر في ثلاثة آلاف بالسلاح، وخرج عن الكوفة، ثم بداله، وقعد، فخاف زياد من ثورته ثانيا.فبعث به في جماعة إلى معاوية. ) ثم ذكر الذهبي ما جرى بينه وبين والي معاوية زياد بن أبيه لما تولى العراق فقال : ( شهد القادسية.وهو الذي افتتح مرج عذراء، وكان عطاؤه في ألفين وخمس مئة.ولما قدم زياد واليا، دعا به، فقال: تعلم أني أعرفك، وقد كنت أنا وأنت على ما علمت من حب علي، وإنه قد جاء غير ذلك، فأنشدك الله أن يقطر لي من دمك قطرة، فأستفرغه كله، أملك عليك لسانك، وليسعك منزلك، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضية لدي، فاكفني نفسك، فإني أعرف عجلتك، فأنشدك الله يا أبا عبدالرحمن في نفسك ) . فهذا الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي الله عنه ( قال الإمام بن العربي المالكي في : ( العواصم من القواصم ) ص 326ط عمار الطالبي ) : ( هو من الصحابة مشهور بالخير ) الشهيد كما يقول الذهبي : ( أمّارا بالمعروف، مقدما على الانكار ) يكذب الأمير وهو يخطب على المنبر بل ويحصبه أي يرميه بالحجارة والحصى ولما ضاق منه ابن زياد ذرعا أمره أن يكف لسانه عنه فأبى فكانت نهايته أن تحققت فيه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم : «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد االمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله». ولم تنكر عليه عائشة رضي الله عنها ما كان يقوم به من الإنكار العلني على والي معاوية على العراق بل أرسلت لمعاوية رسالة تشفع له عنده لكنها جاءت متأخرة كما قال الذهبي رحمه الله : ( وقدم ابن هشام برسالة عائشة، وقد قتلوا، فقال: يا أمير المؤمنين أين عزب عنك حلم أبي سفيان ؟ قال: غيبة مثلك عني، يعني أنه ندم ) مما يدل على أن ما قام به الصحابي الجليل عدي من انتقاد الولاة علنا أمام الناس ليس مخالفا للسنة النبوية ، بل هو ما تعارف عليهالصحابة رضي الله عنهم. بل إن ابن عمر الذي اشتهر عنه عدم انتقاد الولاة تألم لقتله : قال الذهبي : ( روى ابن عون: عن نافع، قال: كان ابن عمر في السوق، فنعي إليه حجر، فأطلق حبوته، وقام، وقد غلب عليه النحيب ) رواه أحمد كما في " البداية والنهاية " 8 / 55 من طريق ابن علية بهذا الاسناد، قال الأرناؤوط : وهو صحيح.
7 ـ وذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في ( سير أعلام النبلاء 274-275/4 : ( عن عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور ! 
ما فعل طعنك على الائمة ؟ قال: دعنا من هذا وأحسن.
قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك تعيب علي.
قال مسور: فلم أترك شيئا أعيبه عليه إلا بينت له.
فقال: لا أبرأ من الذنب.
فهل تعد لنا يا مسور مانلي من الاصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب، وتترك الاحسان ؟ قال ما تذكر إلا الذنوب.
قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلك إن لم تغفر ؟ قال: نعم.
قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الاصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها.
قال: فخصمني.
قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه ) . والمسور بن مخرمة رضي الله عنه من خيار الصحابة وهذه القصة مشهورة كما قال شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله في منهاج السنة النبوية : ( والحكاية المشهورة عن المسور بن مخرمة أنه خلا بمعاوية ...) إهـ من المنتقى من منهاج الاعتدال ص 262 . فانظر إلى منهج المسور في الطعن على الولاة فيما خالفوا فيه الصواب أو فيما وقعوا فيه بالمناكر ولم ينهض عنده أن ذلك من منهج الخوارج أو شيئا من هذا القبيل الذي نسمعه اليوم من بعض الإخوة برغم من أن زمن الديكتاتتورية قد ولى إلى غير رجعة والحمد لله .
8 ـ وقال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه : باب : لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء حديثا وساق بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن في إمارته وقال (
 إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله وايم الله إن كان لخليقا للإمرة وإن كان لمن أحب الناس الي و إن هذا لمن أحب الناس إلي بعده ) . فلم ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن الطعن في الأمير وانتقاده وإنما دافع عنه بما يعلمه من حاله ،ولم يقل لهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا تطعنوا في الأمير .
9 ـ ومن الأدلة الواضحة أيضا على أن انتقاد الولاة على رؤوس الأشهاد كان منهجا معروفا عند السلف ماذكره الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى في فتح الباري 159/13 ح 7151 قال : ( أخرج الطبراني في الكبير من وجه آخر عن الحسن قال لما قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرا أمره علينا معاوية غلاما سفيها يسفك الدماء سفكا شديدا وفينا عبد الله بن مغفل المزني ( قال الجيلالي الدكالي : هو من اهل بيعة الرضوان ) فدخل عليه ذات يوم فقال له انته عما أراك تصنع ، فقال له وما أنت وذاك ـ أي : وما شأنك أنتَ يا ابن مغفل ؟ ـ قال ثم خرج إلى المسجد فقلنا له ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على
 رؤوس الناس فقال انه كان عندي علم فأحببت أن لا اموت حتى أقول به على رؤوس الناس ثم قام فما لبث ان مرض مرضه الذي توفي فيه فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده ) .

10 ـ وأخيرا قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتابه : مختصر منهاج القاصدين ) ص 106 وهو يتكلم على الإنكار العلني على الولاة : ( وإن لم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء ) .
الخلاصة أن المتتبع لسير السلف سيجد الكثير من مثل هذه المواقف التي تدل على أنهم لم يشترطوا في النصح والإنكار أن يكون دائما في السر كما يشترطه كثير من الناس اليوم مع العلم أن الفرق ساشع بين أولئك الحكام وهؤلاء الجاثمين على صدور الشعوب من الديكتاتوريين .
والحمد لله رب العالمين.والله يحفظ لنا الاسرة الحاكمه ويهديهم الي الحكمة والعدل ....... اخوكم /طلال السويدان 

السبت، 20 أكتوبر 2012

الخوف من الله وحدة دون غيرة ....


حاجز عنيد لطالما منعنا من المبادرة إلى الإصلاح، فكثير من الأخطاء التي كنا نراها في وطننا الحبيب كان من الممكن أن يتم تجنبها بكلمة بسيطة نقولها للمخطئ، أو بموقف بسيط نتخذه نرفض فيه السلوك الخاطئ، ولكننا كنا دوماً 
خائفين، هذا الخوف لسنا وحدنا المسؤولين عنه، فقد كان الانتهازيون لايتورعون عن فعل أي شيء في سبيل 
مكاسبهم الشخصية، ولو كان في هذا الضرر الكبير للبلد،حتى أن البعض لم يبال بأن يدفن كلمه الحق في أرض
 وطنه مقابل حفنة من المال! ولككن انا لا الوم الحاكم لان له مستشارون يوصول الصورة التي يريدون ليبينو بأنهم 
صالحون و الامور جيدة في الوطن العزيز مع العالم بان الحاكم الحالي من اطيب الحكام واعلاهم حكمة وتواضع ولكن بعض  المستشارون خطائهم كثيرة...
أ ، من عدم احترام القانون ، إلى الرشاوي في كل معاملات الدولة، إلى الفساد وإهدار المال العام، إلى الاستيلاء على أملاك المواطنين، إلى إلى...

ومن أهم حقائق الإيمان التي يهتم المنهج الإسلامي بغرسها في نفوس المؤمنين: الخوف من الله تعالى دون ما سواه.
أن رجحان جانب الخوف من الله في قلب المؤمن هو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا، وهو الذي يضبط تصرفات الخلق، وهو الذي يضبط المعيار والميزان في النفوس، فهو أصل كل خير في الدنيا والآخرة.

وصدق إبراهيم بن أدهم إذ يقول: «الهوى يُرْدِي، وخوفُ الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك: إذا خفت مَنْ تعلم أنه يراك».

وقد تنبه لهذا وول ديورانت صاحب (قصة الحضارة) فقال: «الأمم لا تتحضّر أبداً إلاَّ بالدين؛ لأن الخوف من الله الذي يرى كل شيء والقادر على كل شيء، هو وحده - أي هذا الخوف - الذي يضبط النزعات الفردية المتمثلة في الرغبات البشرية، والدين مصاحب لمولد كل الحضارات، وغياب الدين نذير بموتها».

وهذا صحيح، فبدون الخوف من الله لا يصلح قلب، ولا تصلح حياة، ولا تستقيم نفس، ولا يُهذَّب سلوك.

فلا يحجز النفس البشرية عن ارتكاب المحرمات من زنى وبغي وظلم واعتداء وعنصرية غير الخوف من الله، ولا يهدئ فيها سعار الشهوات وجنون المطامع غيرُ الخوف من الله، ولا يردع الإنسان عن التقصير والخيانة إلا الخوفُ من الله سبحانه، والعلمُ بأنه مطلع على كل ما نعمله بل وعلى ما تخفيه الأنفس.

إن مما ينبغي ألا يتجاهله المنصفون: أن المسؤول الذي لا يعرف الخوفُ من الله طريقاً إلى قلبه؛ سوف يسرق ويظلم ويفسد، ويحتكر وينهب ويدمر البلاد والعباد.

وهل منع يوسفَ عليه السلام من الوقوع في الفاحشة إلا خوفُه من الله، فقال لامرأة العزيز: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف/23]

وكلنا نذكر قصة عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه، مع الفتاة التي رفضت أن تطيع أمها التي أمرتها بغش اللبن باعتبار أن عمر لا يراهما، فقالت البنت:ُ أي أماه فأين الله؟ واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملا، وأعصيه في الخلاء.

فإذا انعدم الخوف من الله انقلب الإنسان وحشا كاسرا لا يحجزه عن الشر رادع، وصارت القوة والحيلة وبالا على صاحبها وعلى الدنيا كلها، إذ يستخدمها في الظلم والاستيلاء على بلاد وأموال الآخرين، والاعتداء على أعراضهم، وإنكار حقوقهم، والتعالي عليهم.
واختم بهذة الابيات من الشاعر الفارس الجاهلي عنتر بن شداد // 


بَكَرَتْ تُخَوِّفُنى الحُتُوفَ كأَنَّنى ... أَصْبَحْتُ عَنْ عَرَضِ الحُتُوفِ بِمَعْزِلِ

فأَجَبْتُها إِنَّ المَنِيِّةَ مَنْهَلٌ ... لا بُدِّ أَنْ أُسْقَى بذاكِ المَنْهَلِ

فاقْنَىْ حَياءَكِ لا أَبا لَكِ واعْلَمِى ... أَنى امْرُؤٌ سَأَمُوتُ إِن لَّم أُقْتَلِ
  اخوكم//  طلال السويدان الشمري ...

نتائج عدم العدل بين الأولاد




الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي العدل والهدى ، عليه من ربه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات إلى يوم الدين . . . أما بعد :
طاعة الوالدين :
فلا أعظم من طاعة الوالدين بعد طاعة الله تعالى ، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قرن الله طاعتهما بطاعته سبحانه بعد التحذير من الشرك ، فقال تعالى : " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً " ، " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً " . والأدلة في ذلك مشهورة معلومة .
البر والعقوق :
وحذر المولى جل وعلا من عاقبة العقوق تحذيراً شديداً ، جاء ذلك التحذير مستفيضاً في كتاب الله تعالى ، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس حديثنا عن البر والعقوق من قبل الأبناء والبنات ، بل الحديث عن العطف والحنان من قبل الآباء والأمهات ، فمن أدلة تحريم العقوق من كتاب الله تعالى : " ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما " ، وقوله تعالى : " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " ، وأخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من ذنبٍ أجدر أن يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ثلاث آيات مقرونات بثلاث : لا تقبل واحدة بغير قرينتها " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يُقبل منه . " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فمن صلىّ ولم يزكّ لم يُقبل منه . " أن اشكر لي ولوالديك " فمن شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يُقبل منه . فرِضى الله في رِضى الوالدين ، وسخط الله في سخطهما .
نتائج عدم العدل بين الأولاد :
وبما أن العقوق محرم ، ومن أكبر الكبائر ، فلذا كان كل ما يؤدي إلى العقوق حرام ، ومن أعظم ذلك ، عدم العدل بين الأولاد في الهدية والعطية والهبة والصدقة ، فالتمييز بين الأولاد والتفريق بينهم في أمور الحياة سبب للعقوق ، وسبب لكراهية بعضهم لبعض ، ودافع للعداوة بين الأخوة ، وعامل مهم من عوامل الشعور بالنقص ، وظاهرة التفريق بين الأولاد من أخطر الظواهر النفسية في تعقيد الولد وانحرافه ، وتحوله إلى حياة الرذيلة والشقاء والإجرام .
المفاضلة بين الأولاد خطيرة ، ومن أعظم العوامل التي تسبب الانحراف عن منهج الشريعة الصحيحة ، والصراط المستقيم ، بل سبب مباشر للعقوق ، وقد يسبب القتل والعياذ بالله ، والواقع خير شاهد على ذلك .
والمفاضلة تختلف ، فمنها المفاضلة في العطاء ، والمفاضلة في المعاملة ، والمفاضلة في المحبة ، أو غير ذلك من المفاضلة والتمييز الذي ذمه الشرع وحرمه ومنعه ، لما يسببه من أسباب وخيمة ، وعواقب جسيمة ، وهناك من الآباء والأمهات من لا يعدل بين أبنائه ظلماً وجوراً ، وإجحافاً وتعسفاً . فيقع في الحرام وقد لا يدري .
وكم هي المآسي والأحزان التي تعج بها بعض البيوت نتيجة للظلم والتمييز العنصري ، والتفريق بين الأبناء ، وعدم العدل بينهم ، مما تسبب في وجود الكراهية والبغضاء بين الأخوة في البيت الواحد ، والسبب هم الآباء ، وعدم اتباع الكتاب والسنة في مثل تلك الأمور والمنحدرات الخطيرة التي تؤدي بالأسرة إلى الهاوية والعياذ بالله .
فظاهرة عدم العدل بين الأولاد لها أسوأ النتائج في الانحرافات السلوكية والنفسية ، لأنها تولد الحسد والكراهية ، وتسبب الخوف والحياء ، والانطواء والبكاء ، وتورث حب الاعتداء على الآخرين لتعويض النقص الحاصل بسبب التفريق بين الأولاد ، وقد يؤدي التفريق بين الأولاد إلى المخاوف الليلية ، والإصابات العصبية ، وغير ذلك من الأمراض الغير عضوية ، مما يضطر الكثير من الأولاد إلى مراجعة مستشفيات الصحة النفسية ، وهناك تشتد الآلام أكثر مما كانت عليه من ذي قبل ، فمثل هذه المصحات لا فائدة ترجى منها ، بقدر ما هي زيادة في المرض كما هو معلوم لدى الكثير ممن يراجعها .
وهنا أمر مهم يدخل ضمن المفاضلة في المحبة ، وهو تفضيل محبة بعض الأحفاد على بعض ، فقد يكون للأب أو الأم ، أبناء وبنات ، فيتزوجون وينجبون ذرية ، فلا يكون هناك عدل من قبل الأجداد في العدل في محبة أبناء الأبناء ، وقد يكون ذلك واضحاً جلياً ، فيكون هناك انحياز لبعض الأحفاد على حساب بعض ، وهنا تقع الكارثة والمصيبة الكبرى ، من البغض والكره والغيظ للأجداد من الأبناء والأحفاد ، نظراً لعدم التسوية في الملاطفة والمحبة ، ونظراً لعدم العدل بين الأبناء ، وأبناء الأبناء ، فاتقوا الله أيها الآباء والأجداد في العدل بين أبنائكم وأحفادكم ، فلا أعز من الولد إلا ولد الولد ، وعاملوهم كما تحبون أن يعاملوكم به .
أسباب التفضيل بين الأبناء :
البعض من الآباء قد يفضل بعض الأبناء على بعضهم لأسباب قد يراها موافقة له على ذلك ، والصحيح عكس ما كان يعتقد ، فمن تلك الأسباب :
1- أن يكون الطفل من الجنس الغير مرغوب فيه جهلاً لكونه أنثى :
ما ذنب الطفل إن ولد في حياته أنثى ، لقد حث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على العناية بالبنات ورعايتهن أشد رعاية والاهتمام بهن وعدم عضلهن ، وأنهن الحجاب من النار إذا أحسنت تربيتهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : [ من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين ] وضم أصابعه ( رواه مسلم ) . ـ أي من رعى بنتين وقام عليهما بالمؤونة والتربية جاء مصاحباً لنبي الله صلى الله عليه وسلم ـ ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ من ابتلي ـ أي اختبر ـ من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار ] ( متفق عليه ) ، فهل أحسنت إلى ابنتك أنت ؟ أم أهنتها وأذقتها المرارة ؟ وجرعتها كأس الحرمان من الزواج من أجل تلك الوظيفة والعقبة الدنيئة ، قال صلى الله عليه وسلم : [ اللهم إني أحرج حق الضعيفين ، اليتيم والمرأة ] ( رواه النسائي وغيره بإسناد حسن ) ، ومعنى ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم يلحق الإثم بمن ضيع حقهما ، وحذر من عاقبة ذلك تحذيراً بليغاً . وقال صلى الله عليه وسلم : [ إن شر الرعاء الحطمة ، فإياك أن تكون منهم ] ( متفق عليه ) ومعنى الحطمة : العنيف برعاية الإبل ، فقد ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لوالي السوء ، الذي يظلم من هو تحت ولا يته من أهل وغيرهم ، وما فيه من قسوة وجلافة ، وعنف وعدم رحمة ، وبعده عن الرفق والشفقة . وقال صلى الله عليه وسلم : { استوصوا بالنساء خيرا } ( متفق عليه ) .
2- أن يكون الابن قليل الحظ من الجمال أو الذكاء ، وما جريمة الطفل إذا كان قليل الجمال ، أو دميم الخلقة ، أو كان قليل الذكاء ، أو لم ذا ذكاء فارط ، حتى يخترع الصواريخ والسفن الفضائية ، فهذه الأمور ليست بيد أحد من الخلق أجمعين ، بل بيد الله وحده سبحانه العليم الحكيم ، الذي خلق كل شيء بقدر ، ولهذا قال تعالى : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " فإن كان الأمر بيد الله تعالى ، والأمر إليه من قبل ومن بعد فلا يحق للآباء أن يفضلوا بين أبنائهم من أجل أمور خارجة عن إرادة البشر أجمعين ، بل قد يكون هناك من الآباء من أهو أشد غباءً من ابنه ، ومع ذلك يفضل بعض الأبناء على بعض بسبب تلك الظاهرة .3- أن يكون أحدهم محبوباً دون الآخرين لكثرة حركته أو قلة حركته ، فهذه كسابقتها ، لا يجوز لأحد أن يفرق بين أبنائه في التعامل والعطية والمحبة من أجل مثل ذلك الأمر ، فمن كان السكون طبعه فكل الناس يرجو مثل هذا الولد ، ومن كان مشاكساً ومشاغباً وكثير الحركة ، فالتعليم يجدي فيه ، بأن يكتسب الهدوء والسكينة بما يتلقاه من التعليم من قبل الوالدين ، وليس هذا مسوغاً في التفريق بين الأبناء في المعاملة .4- أن يكون أحدهم مصاباً بعاهات جسدية ظاهرة ، فهذا بدل التفريق يحتاج إلى الكثير من الحنان والمحبة ، حتى يخرج من محنته التي هو فيها ، فقد تكون هذه العاهات سبباً لتسميته بها ، وهذا أمر محرم بنص الكتاب الكريم فقد قال الله تعالى : " ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب " قال بن كثير رحمه الله : لا تتداعوا بالألقاب وهي التي يسوء للشخص سماعها . وقال بن جرير الطبري : والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره ، نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب ، والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها .
واجب الوالدين نحو الأولاد :
فعلى الوالد والوالدة أن يتقوا الله تعالى وأن يعدلوا بين أبنائهم في كل أمور حياتهم ، ولا يفرقوا بين أحد منهم ، فهم أبناء بطن واحد ورجل واحد ، وجاء في الحديث في الإحياء ، قوله صلى الله عليه وسلم : " رحم الله والداً أعان ولده على بره " [ والحديث ضعيف ضعفه الألباني والحافظ العراقي انظر الضعيفة 1946] ، لكن معنى الحديث صحيحاً ، فالعدل بين الأولاد من أعظم أسباب الإعانة على البر ، وعلى النقيض من ذلك ، فالتفريق بين الأولاد من أعظم أسباب العقوق والهجر والكراهية .
يقول يزيد بن معاوية : أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس ، فلما وصل إليه قال له : يا أبا بحر ، ما تقول في الولد : قال يا أمير المؤمنين : ثمار قلوبنا ، وعماد ظهورنا ، ونحن لهم أرض ذليلة ، وسماء ظليلة ، وبهم نصول على كل جليلة ، فإن طلبوا فأعطهم ، وإن غضبوا فأرضهم ، يمنحوك ودهم ، ويحبونك جهدهم ، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً ، فيملوا حياتك ، ويودوا وفاتك ، ويكرهوا قربك ، فقال له معاوية : لله أنت يا أحنف ، لقد دخلت علي وأنا مملوء غضباً وغيظاً على يزيد ، فلما خرج الأحنف من عنده ، رضي عن يزيد وبعث إلى يزيد بمائتي ألف درهم ، ومائتي ثوب . [ إحياء علوم الدين 2/295 ] .
وجاء رجل إلى عبدالله بن المبارك يشكو إليه ولده ، فقال : أدعوت عليه ؟ قال : نعم ، قال : أنت أفسدته . وهذا أمر خطير وهو الدعاء على الأولاد ، فكما أن الدعاء لهم مستجاب إن شاء الله فالدعاء عليه مستجاب أيضاً . فليحذر الآباء من الدعاء على الأبناء في كل صغير ة وكبيرة ، فهذا من أشد الأمور خطراً في انحراف الأولاد . قال صلى الله عليه وسلم : " ثلاث دعوات مستجابات : دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده " [ أخرجه ابن ماجة وغيره وصححه الألباني ] ، فانتبهوا أيها الأخوة فالأمر خطير ، والخطب جسيم ، فليس هناك أمر يدعو الآباء للدعاء على أبنائهم ، فالكل يخطئ ، والواجب على الآباء والأمهات ، أن يكثروا من الدعاء لأبنائهم ، فهم فلذات الأكباد ، وهم عماد الأمة ، وهم زينة الحياة الدنيا ، فكم هم الذي حرموا الإنجاب ، ويسعون في الأرض بحثاً عن سبب أو طريقة تعينهم بعد الله على الإنجاب ، فنعمة الأولاد لا يعرفها إلا من حرمها ، وكذا كل نعمة لا يعرف قدرها إلا من حرمها . فالواجب على الآباء والأمهات أن يتحينوا أوقات إجابة الدعاء ويدعوا لأبنائهم بالهداية والصلاح واتباع نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وعليهم أن يتخذوا الأسباب المؤدية إلى ذلك ، من المحافظة على الأبناء من أصدقاء السوء وأهل الشر والفساد ، وعدم السماح لهم بالخروج كل وقت وحين ، وإذا خرجوا كانوا تحت الملاحظة خصوصاً في زمن الفضائيات وكثرة الانفتاحية التي عمت أنحاء العالم ، وعدم إعطائهم المال بدون سبب ، فهو سبيل للوقوع في شرب الدخان ومن ثم فهو بوابة للدخول في عالم المخدرات ، والنتيجة هي الجنون أو الانتحار أو السجن أو القصاص والعياذ بالله ، وهناك أسباب أخرى ليس هذا هو محل بحثها واستقصائها ، ولكن من قبيل التعريج عليها لأنها تخص ما نحن بصدده من العقوق والبر ، والعدل بين الأولاد .
أدلة وجوب العدل بين الأبناء :
ولقد جاءت الآيات والأحاديث متضافرة مشهورة معلومة ، دالة على وجوب العدل ، محذرة من الحيف والظلم والجور ، أو التفريق بين الأبناء في الهبات والعطايا ، فمن الكتاب العزيز :
1- قوله تعالى : " وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم " .2- قال تعالى : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " .3- قال تعالى : " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " .
وأما الأدلة على العدل من السنة المطهرة فإليكم طرفاً منها :
1- عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولُوا " [ أخرجه مسلم واللفظ له والنسائي ] .2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى وصية حاف في وصيته فيختم له بشر عمله ، فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنة " قال أبو هريرة : واقرأوا إن شئتم { تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين } " [ أخرجه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن صحيح غريب ، وأخرجه ابن ماجة ] .3- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهوبة من ماله لابنها فالتوى بها سنة ، ثم بدا له ، فقالت : لا أرضى حتى تُشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وهبت لابني ، فأخذ أبي بيدي ، وأنا غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله إن أم هذا ، بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بشير ألك ولد سوى هذا ؟ قال : نعم ، فقال : " أكلهم وهبت له مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : " فلا تشهدني إذاً ، فإني لا أشهد على جور " [ أخرجه مسلم ] .4- وعند البخاري والنسائي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكل بنيك نحلت مثل الذي نحلت النعمان ؟ قال : لا ، قال : فأشهد على هذا غيري ، قال : " أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال فلا إذاً " .5- وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا أشهد ، إني لا أشهد إلا على حق " . وفي رواية عند البخاري : " اعدلوا بين أولادكم في العطية " ، وفي رواية أخرى أيضاً عند البخاري : " أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : " فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " قال : فرجع فرد عطيته .6- وفي رواية قال له : " فاردده " ، فرجع في هبته .7- وروى ابن أبي الدنيا بسنده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اعدلوا بين أولادكم في النحل ، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف " [ حديث صحيح 1 172 ] .8- قال صلى الله عليه وسلم : " اعدلوا بين أبنائكم ، اعدلوا بين أبنائكم " [ أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم بسند صحيح ، وصححه الألباني ] .9- وفي صحيح مسلم أن امرأة بشير قالت له : انحل ابني غلاماً وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلاماً ، قال : " له أخوة " ، قال : نعم ، قال : " أفكلهم أعطيت مثل ما أعطيته ؟ " قال : لا ، قال : " فليس يصلح هذا ، وإني لا أشهد إلا على حق " .10- وقال الحسن : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ جاء صبي حتى انتهى إلى أبيه ، في ناحية القوم ، فمسح رأسه وأقعده على فخذه اليمنى ، قال : فلبث قليلاً ، فجاءت ابنة له حتى انتهت إليه ، فمسح رأسها وأقعدها في الأرض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فهلا على فخذك الأخرى " ، فحملها على فخذه الأخرى ، فقال صلى الله عليه وسلم : " الآن عدلت " .11- وروي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ضم ابناً له ، وكان يحبه ، فقال : يا فلان ، والله إني لأحبك ، وما أستطيع أن أوثرك على أخيك بلقمة . [ إسناده مقبول ] .12- ويهيمن على كل تلك الأدلة هذا الدليل العظيم الخطورة ، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة " [ متفق عليه ] .
ومن لم يعدل بين أولاده أو يساوي بينهم بالمعروف وبالحق والقسطاس المستقيم ، فقد نكب عن جادة الصواب ، وغالط نفسه ، ولم يأبه بالأدلة ، فهو غاش لأولاده ، وظالم في عدم التسوية بينهم . فهو مستحق للعقوبة والعياذ بالله .
قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله تعالى :
لا تجوز الشهادة في مثل ذلك لا تحملاً ولا أداءً ، وقال العلماء : يجب الإنكار على من خالف ففضل بعض أولاده على بعضهم في الهبة ، لأنه حيف وظلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على بشير بن سعد رضي الله عنه تفضيله ولده النعمان على إخوانه . والحق الذي لا شك فيه وجوب التسوية بين الأولاد ، لما فيه من المصالح الكبيرة ، ودفع المضار والمفاسد الوخيمة . [ توضيح الأحكام 4/263-265 ] .
ظلم الإناث :
لقد كانت المرأة في العصور الجاهلية القديمة تعد من سقط المتاع ، بل هي من ضمن الميراث ، فلا ميراث لها عند أولئك الكفرة الفجرة ، أولئك الجهلة الظلمة ، إلى أن جاء النور المحمدي الشريف من لدن رب العزة والجلال ، فرفعت المرأة رأسها ، وأشرفت على الناس أجمعين ، شامخة أبية ، فقد أنصفها الدين الإسلامي وجعلها مساوية للرجل ، إلا فيما فضل الشارع الرجل عن المرأة ، كالقوامة ، وجعل الطلاق بيد الرجل ، وجعل شهادة رجل واحد بشهادة امرأتين ، ودية المرأة نصف دية الرجل ، وهكذا نرى أن الإسلام حفظ للمرأة مكانتها ، وصان عرضها وعفافها ، فأعطيت جميع الحقوق ، ومن ذلك الميراث ، قال تعالى : " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " ، فالمرأة في الميراث تأخذ نصف ميراث الرجل ، لأن الرجل هو المسؤول عن الإنفاق ، وهو المكلف بجلب المهر للمرأة ، أما المرأة فلا نفقة عليها للزوج ، ولا مهر عليها ، لذا كان نصيبها من الميراث نصف ما للرجل ، وهذه حكمة عظيمة بالغة من لدن حكيم خبير ، والمصيبة العظمى ، والطامة التي لا مثيل لها عندما نجد بعض المسلمين ممن ينتسبون إلى هذا الدين ، وهم يغالطون أنفسهم ببعدهم عن خالقهم ، وتركهم لسنة نبيهم ، وذلك بهضم حقوق المرأة في الميراث ، وعدم إعطائها أياً من حقوقها جهلاً بحقوق المرأة التي حفظها الإسلام ، وتساهلاً بأوامر الدين ، فالمرأة لها من الميراث ما قضى به الشارع الكريم ، فإما أن تكون بنتاً ، أو أماً أو أختاً أو زوجة أو غير ذلك ، فلكل واحدة نصيبها من الميراث وفق الشرع ، ويحرم هضم حقوق المرأة من الميراث ، أو كتابة الوصية للذكور دون الإناث ، ويحرم إعطاء البنات جزءاً من أرض ، وتخصيص الذكور بالأجزاء الكبيرة من الميراث ، لما في ذلك من ظلم للبنات . بل الصواب في ذلك أنه لا وصية لوارث ، كما صح الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإعطاء المرأة حقها من الميراث وفق الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ، والحذر كل الحذر من ظلم الإناث ، أو أكل حقوقهن ، أو عضلهن ، أو منعهن من الميراث ، فكل ذلك حرام ، لم تحله الشريعة الإسلامية ، بل أبطلت مثل تلك العادات الجاهلية القديمة ، وعلى الولي والأب أن يتق الله في نفسه ، فهو قادم على ربه تبارك وتعالى ، فلا يلقى ربه وعليه مظلمة لأحد من الناس ، فكيف إذا كان المظلوم والمغبون والمغشوش هو البنت ، التي أمر الإسلام بتوقيرها ، ورَفْعِ مكانتها ، وإعْلاءِ شأنها ، وحَرَّمَ ظُلمها ، أو الاستهتار بها ، أو أكْلِ حُقُوقِها ، الميراث ياعباد الله لا يقسم عن جهل ، وتعصب لأحد دون الآخر ، هذا من أعظم الظلم ، ومن أعظم الاعتراض على كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا يوزع الميراث إلا وفق ما جاءت به الآيات الكريمات ، ووفق ما جاء في السنة المطهرة ، وذلك عن طريق العلماء أو عن طريق المحاكم الشرعية ، التي تحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، والتي لا يكون فيها محاباة لأحد دون أحد ، أما أن يوزع الميراث عشوائياً ، فهذا حرام لا يجوز ، وصاحبه معاقب ، ومأزور غير مأجور ، قال صلى الله عليه وسلم : " من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده عليها ـ يعني الذكر ـ أدخله الله الجنة " [ أخرجه أبو داود والحاكم وقال صحيح الإسناد ] ، ومفهوم الحديث أن من فضل الذكور على الإناث فلن يدخل الجنة ، بل سيدخل النار والعياذ بالله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً : " سووا بين أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء " [ أخرجه البيهقي في السنن ، وسعيد بن منصور في سننه وحسن إسناده الحافظ بن حجر ] ، فعلينا معاشر المسلمين أن نعتز بديننا ونفخر بشريعتنا ، فلم تترك صغيرة ولا كبيرة مما يحتاجه المسلم والمسلمة في أمور دينه إلا وبينته بياناً شافياً كافياً ، فلله الحمد من قبل ومن بعد .
سؤال :
يقول السائل والده توفي ، وقد قسم تركته بين أولاده الثلاثة وبناته الثلاث قبل موته ، لكنه زاد الذكور ، فأعطى كل واحد من الذكور الثلاثة قطعة أرض لبنائها ، وقام كل واحد منهم ببناء أرضه وسكنها هو وأولاده ، فهل للأخوات حق في تلك الأراضي ؟
الجواب :
إذا كانت الأخوات قد رضين بذلك ، فلا حرج عليكم ، وإن كن لم يرضين فالواجب إعطاؤهن حقهن من الأرض مقسماً لهن على حساب الميراث ، للذكر مثل حظ الأنثيين . [فتاوى اللجنة الدائمة 16/237 ] .
وكما أنه لا يجوز تفضيل الذكور على الإناث ، فكذلك لا يجوز تفضيل الإناث على الذكور ، وتخصيصهن بعطية أو هبة أو صدقة دون الذكور ، فهذا لا يجوز ومن فعل ذلك فقد ارتكب إثماً عظيماً . ولا يحل لأب أن ينحل بعض أولاده على بعض ، ومن فعل ذلك بالكلام دون التسليم والقبض ، أو فعله وهو في مرض الموت ، أو المرض المخوف ، فهذا مردود باتفاق العلماء إلا خلافاً شاذاً لا يُعتد به . وأما إن قبض بعض الأبناء ما أعطي لهم ، ففيه خلاف بين العلماء ، والصواب في ذلك أن عليهم رده شرعاً ، وهو الذي تشهد له الأدلة السابقة ، وعليهم أن يقتسموه بينهم وفق ما جاء في كتاب الله تعالى ، للذكر مثل حظ الأنثيين . والعلم عند الله تعالى . [ مجموع الفتاوى 31/296-297 ] .
أقوال العلماء في العدل بين الأولاد :
يقول البخاري رحمه الله :
إذا أعطى الوالد بعض ولده شيئاً لم يجز حتى يعدل بينهم ويعطي الآخر مثله .
واختلف العلماء في وجوب التسوية بين الأولاد في العطية إلى قولين :
القول الأول : 
ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن التسوية بينهم في العطايا مستحبة ، وليست واجبة . لأن الصديق رضي الله عنه فضل عائشة رضي الله عنها على غيرها من أولاده في الهبة ، وفضل عمر رضي الله عنه ابنه عاصماً بشيء من العطية على غيره من أولاده . ولأن في بعض روايات حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما : " فأشهد على هذا غيري " ما يدل على الجواز . [ الموسوعة الفقهية 11/359 ] .
ويجاب على ذلك بجوابين :
الأول : أما من جهة ما أعطاه الصديق لعائشة رضي الله عنها ، فقد قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى :
لا يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ولا قول غيره ، لكن يُجمع بين حديث النعمان بن بشير وحديث عائشة : أن أباها نحلها جذاذ عشرين وسقاً ، يحتمل أن أبا بكر رضي الله عنه خصها لحاجتها وعجزها عن الكسب ، والسبب مع اختصاصها بفضلها ، وكونها أم المؤمنين ، وغير ذلك من فضائلها ، ويحتمل أن يكون نحلها ونحل غيرها من ولده ، أو نحلها وهو يريد أن ينحل غيرها فأدركه الموت قبل ذلك ، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه . [ مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 9/220 ] . 
والثاني : من جهة قوله صلى الله عليه وسلم : " فأشهد على هذا غيري " ، فقد قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى :
قوله صلى الله عليه وسلم : " أشهد على هذا غيري " ، هذا أمر تهديد لا إباحة ، فإن تلك العطية كانت جوراً بنص الحديث ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور ، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية ، وقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد عليها ، وأخبر أنها لا تصلح ، وأنها جور ، وأنها خلاف العدل . ومن العجيب أن يحمل قوله : " اعدلوا بين أولادكم " على غير الوجوب ، وهو أمر مطلق مكرر ثلاث مرات ، والعدل واجب في كل حال فلو كان الأمر به مطلقاً لوجب حمله على الوجوب ، فكيف وقد اقترن به عشرة أشياء تؤكد وجوبه ، فتأملها في ألفاظ القصة . [ تحفة المودود بأحكام المولود 385 ] .
القول الثاني :
وذهب الحنابلة ، وأبو يوسف من الحنفية ، وهو رواية عن الإمام مالك ، وهو قول ابن المبارك وطاووس ، إلى وجوب التسوية بين الأولاد في الهبة ، فإن خص بعضهم بعطية ، أو فاضل بينهم فيها ، فهو آثم ، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين :
إما رد ما فضل به البعض ، وإما إتمام نصيب الآخرين ، ويشهد لذلك حديث النعمان بن بشير بجميع ألفاظه . [ الموسوعة الفقهية 11/359 ] .
الراجح :
والقول الراجح في ذلك هو القول الثاني ، وهو وجوب التسوية بين الأبناء في العطية والهبة ، وهو القول الذي تسنده الأدلة .
أما أقوال المعارضين ومن قال بعدم وجوب التسوية ، فقد احتجوا بعدة أمور ، وأجاب عنها الحافظ بن حجر رحمه الله ، وقد احتجوا بالندب وعدم الوجوب بعشرة وجوه وإليكها للفائدة :
الوجه الأول :
أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ولذلك منعه فليس فيه حجة على منع التفضيل حكاه بن عبد البر عن مالك بالإجماع بأن كثيراً من طرق حديث النعمان صرح بالبعضية وقال القرطبي ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهبه له لما سألته الأم الهبة من بعض ماله قال وهذا يعلم منه على القطع أنه كان له مال غيره .
الوجه الثاني : 
أن العطية المذكورة لم تتنجز وإنما جاء بشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بأن لا تفعل فترك حكاه الطحاوي وفي أكثر طرق حديث الباب ما ينابذه .
الوجه الثالث : 
أن النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه الرجوع ذكره الطحاوي وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث أيضا خصوصا قوله أرجعه فإنه يدل على تقدم وقوع القبض والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضاً له لصغره فأمر برد العطية المذكورة بعد ما كانت في حكم المقبوض .
الوجه الرابع :
أن قوله أرجعه دليل على الصحة ولو لم تصح الهبة لم يصح الرجوع وإنما أمره بالرجوع لأن للوالد أن يرجع في وهبه لولده وأن كان الأفضل خلاف ذلك لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك أمره به وفي الاحتجاج بذلك نظر والذي يظهر أن معنى قوله أرجعه أي لا تمض الهبة المذكورة ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة .
الوجه الخامس : 
أن قوله أشهد على هذا غيري إذن بالإشهاد على ذلك وإنما أمتنع من ذلك لكونه الإمام وكأنه قال لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم حكاه الطحاوي أيضا وارتضاه بن القصار وتعقب بأنه لا يلزم من كون الإمام ليس من شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد بعض نوابه جاز وأما قوله إن قوله أشهد صيغة إذن فليس كذلك بل هو للتوبيخ لما يدل عليه بقية ألفاظ الحديث وبذلك صرح الجمهور في هذا الموضع وقال بن حبان قوله أشهد صيغة أمر والمراد به نفي الجواز وهو كقوله لعائشة اشترطي لهم الولاء انتهى .
الوجه السادس :
التمسك بقوله ألا سويت بينهم على أن المراد بالأمر الاستحباب وبالنهي التنزيه وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما أن تلك الرواية بعينها وردت بصيغة الأمر أيضا حيث قال سوي بينهم .
الوجه السابع :
وقع عند مسلم عن بن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان قاربوا بين أولادكم لا سووا وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية . الوجه الثامن :
في التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين قرينة تدل على أن الأمر للندب لكن إطلاق الجور على عدم التسوية والمفهوم من قوله لا أشهد إلا على حق وقد قال في آخر الرواية التي وقع فيها التشبيه قال فلا إذا .
الوجه التاسع :
عمل الخليفتين أبي بكر وعمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب فأما أبو بكر فرواه الموطأ بإسناد صحيح عن عائشة أن أبا بكر قال لها في مرض موته إني كنت نحلتك نحلا فلو كنت اخترتيه لكان لك وإنما هو اليوم للوارث وأما عمر فذكره الطحاوي وغيره أنه نحل ابنه عاصما دون سائر ولده وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين بذلك ويجاب بمثل ذلك عن قصة عمر . 
الوجه العاشر :
أن الإجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده فإذا جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم ذكره بن عبد البر ولا يخفى ضعفه لأنه قياس مع وجود النص . [ فتح الباري 5 / 264-265 ] .
أحكام مهمة :
1- تفضيل بعض الأبناء على بعض لا يجوز ، وإنما المشروع في عطية الأولاد هو التسوية بينهم في العطاء على السواء ، ولا يجوز التفضيل إلا لمسوغ شرعي ، كأن يكون أحدهم مقعداً لا يستطيع العمل ، أو كونه صاحب عائلة كبيرة ولا يكفي راتبه بالإنفاق عليهم ، أو كونه مشتغلاً بطلب العلم ، وتصرف العطية عن بعض الأولاد بسبب فسقه ومعاصيه ، أو عقوقه لوالديه ، أو بدعته ، أو لكونه يعصي الله فيما يأخذه من العطية والهبة . وهذا هو قول الإمام أحمد رحمه الله ، فإنه قال في تخصيص أحدهم بالوقف : لا بأس إذا كان لحاجة ، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة ـ يعني الإيثار ـ ، والعطية في معناه . ويجوز التفضيل إذا سمح بقية الأخوة بذلك .
أو كان أحد الأبناء يقوم على خدمة والده أو والدته والقيام بشؤونه ، فيجوز إعطاؤه بقدر أجرة المثل ولا يزيد على ذلك ، حتى لا يقع في التفضيل . 
يقول الشيخ عبدالله البسام : 
إذا خص الوالد بعض أولاده دون بعض ، أو فضله دون البعض الآخر بلا مسوغ شرعي ، ثم مات الوالد قبل أن يرجع فيما خص به ، ولا بما زاد به بعضهم على بعض ، فهل تمضي العطية لمن أُعطيها ، والإثم على الوالد المُفَضِل بينهم ؟ أم يرجع الورثة على المُعْطَى ويكونون فيها سواء ؟ [ سيأتي بيان آخر للمسألة فيما بعد إن شاء الله ] . ذهب جمهور العلماء إلى القول الأول ، ومنهم الأئمة الأربعة . والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أن العطية لا تثبت ، وللباقي الرجوع ، واختاره ابن عقيل ، والعكبري ، والشيخ تقي الدين ، وصاحب الفائق ، واختاره الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب ، وهو قول عروة بن الزبير ، وإسحاق . [ توضيح الأحكام 4/265 ] .قلت : والقول الثاني هو الصحيح وهو الذي اختاره شيخ الإسلام وغيره من العلماء المتأخرين ، لما فيه من الظلم والله تعالى نهى عن الظلم وحرمه على نفسه وعلى عباده ، فكيف تمضي العطية وهي ظلم ، بل العدل كل العدل أن توزع بين الأخوة والأخوات ، حتى لا يقع النزاع والخصومة بينهم ، ويفضي ذلك إلى القطيعة والكراهية والبغضاء ، بل قد يقتتلون من أجل ذلك الأمر ، وقد يؤدي بهم ذلك إلى كراهية والدهم ، فحفظاً للأواصر وصلة الرحم ، وإبراءً للذمة ، وخلاصاً لوالدهم من الإثم ، كان الصحيح في ذلك هو توزيع العطية بين الورثة حسب ما جاء في كتاب الله تعالى ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
2- من أراد قسمة شيء من ماله بين أولاده فيجب عليه أن يقسمه بين الذكور والإناث مثل الميراث ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وقال بعض العلماء بل يقسمه بالتساوي في حياته ، أما بعد الممات فيكون القسم للذكر مثل حظ الأنثيين كما أمر الله به ، وهذا مقتضى العدل ، ولعل الصواب في ذلك القول الثاني والعلم عند الله تعالى ، وهو أن يقسمه بالتساوي ، لما دل عليه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما بعدم التفريق بين الذكر والأنثى ، وهذا هو قول جمهور العلماء . والذي اختارته اللجنة الدائمة للذكر مثل حظ الأنثيين ، لقول عطار رحمه الله : ما كانوا يقسمونه إلا على كتاب الله تعالى . وهذا مذهب الحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية ، وقالوا : أن المشروع في عطية الأولاد القسمة بينهم على قدر ميراثهم ، أي للذكر مثل حظ الأنثيين ، لأن الله سبحانه وتعالى قسم لهم في الإرث هكذا ، وهو خير الحاكمين ، وهو العدل المطلوب بين الأولاد في الهبات والعطايا ، فلو بقي هذا العطاء إلا ما بعد وفاة المعطي فإنه سيقسم وفق المواريث ، أي للذكر مثل حظ الأنثيين ، فالله أعدل الحاكمين ، وقد حكم بذلك بين الأولاد ، فكان من الواجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك .3- ولا يجب على الإنسان التسوية بين أقاربه ولا إعطاؤهم على قدر ميراثهم ، لأن الأصل إباحة الإنسان التصرف في ماله كيف شاء ، ولا يصح قياسهم على الأولاد ، وهذا هو القول الراجح . [ توضيح الأحكام 4/266 ] . 4- فإن كان في بطن الأم حملاً ، فإنه ينتظر حتى يوضع فيقسم له مع أخوته بالتساوي ، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مسألة شبيهة بهذه المسألة .
سؤال :
رجل له بنتان ، وله امرأة مطلقة وهي حامل ، وكتب لابنتيه ألفي دينار ، وأربع أملاك ، ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر ، ولم يكتب له شيئاً ، ثم بعد ذلك توفي الوالد وخلف موجوداً خارجاً عما كتبه لبنتيه ، وقسم الموجود بينهم على حكم الفريضة الشرعية ، فهل يفسخ ما كتب للبنات أم لا ؟
فأجاب : 
هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم ، إن كان قد ملك البنات تمليكا تاما مقبوضا . فإما أن يكون كتب لهن في ذمته ألفي دينار من غير إقباض ، أو أعطاهن شيئاً ولم يقبضه لهن : فهذا العقد مفسوخ ، ويقسم الجميع بين الذكر والأنثيين . وأما مع حصول القبض : ففيه نزاع . وقد روي أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده ، فلما مات ولد له حمل ، فأمر أبو بكر وعمر أن يعطى الحمل نصيبه من الميراث ، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك ، وعلى البنات أن يتقين الله ويعطين الابن حقه ، وأما إذا وصى لهن بعد موته فهي غير لازمة باتفاق العلماء ، والصحيح من قولي العلماء أن هذا الذي خص بناته بالعطية دون حمله ، يجب عليه أن يرده بعد موته ، طاعة لله ولرسوله ، واتباعاً للعدل الذي أُمر به ، واقتداءً بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . [ مجموع الفتاوى 31/276 ] . 
5- ولا تجوز الزيادة لأحد من الأبناء على أحد باسم صدقة أو هبة أو بيع بأقل من ثمن المثل ، إلا إذا سمح الآخرون ، وكانوا مرشدين ، ويسري سماح كل واحد في حقه دون حق غيره ، فلا ينوب أحد عن أحد في التنازل .6- ويحرم كتابة بيع وشراء صوري لا حقيقة له ، لأحد الأبناء دون الآخرين ، لأنه من الظلم والجور ، والتعدي على حقوق الآخرين . أما إن كان البيع حقيقياً فلا بأس بذلك ، لأن الابن في ذلك مثل الغريب في البيع والشراء .7- والأفضل أن يترك الوالد قسمة أمواله إلا ما بعد موته ، حتى تكون ميراثاً للأبناء والبنات من بعده ، توزع وفق الشرع المطهر ، ويخرج من تبعة القسمة الغير عادلة .8- ومن أصر على توزيع ماله على بعض أبنائه دون بعض أو تفضيل بعضهم على بعض ، فهو آثم والعياذ بالله ، وعليه أن يتق الله تعالى في أولاده وأن يعدل بينهم ، كما يحب هو أين يكونوا في بره سواء ، ومن أخذ شيئاً من الأبناء مما لا يحل له ، فهو آثم لمشاركته في الإثم والعدوان ، وجور الوالد أو الوالد في العطية ليس مسوغاً شرعياً بقبولها ، قال تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ، ومن أخذ أكثر من إخوانه يجب عليه رد الزيادة ، أو قبولها إذا كان في رده إغضاباً لوالديه ، ومن ثم توزيعها بالتساوي مع اخوته ، براءة للذمة ، وإنصافاً لإخوانه ، ورأفة بالوالد أو الوالدة من عقوبة الحيف والجور في العطاء .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا السؤال :
امرأة لها أولاد غير أشقاء ، فخصصت أحد الأولاد وتصدقت عليه بحصة من ملكها دون بقية إخوته ، ثم توفيت المذكورة وهي مقيمة بالمكان المتصدق به . فهل تصح الصدقة أم لا ؟
الجواب : 
الحمد لله . إذا لم يقبضها حتى ماتت بطلت الهبة في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة ، وإن أقبضته إياه لم يجز على الصحيح أن يختص به الموهوب له ، بل يكون مشتركاً بينه وبين إخوته . والله أعلم . [ مجموع الفتاوى 31/272 ] .
الفرق بين النفقة والحاجة والعطية :
وهناك فرق بين الإنفاق والعطية ، فالإنفاق واجب على الوالد تجاه أولاده ، وليس بشرط أن يعدل بينهم في الإنفاق ، فقد يحتاج أحدهم إلى أكثر مما يحتاجه الآخرين ، فمثلاً قد يكون أحدهم طالباً في جامعة أو كلية والآخرين في الابتدائي أو المتوسط ، فلا شك أن طالب الجامعة يحتاج من المصاريف أكثر مما يحتاجه من هو أقل منه تعليماً ، وقد يكون أحدهم طويلاً ، والآخر قصيراً ، فيحتاج الطويل إلى خمسة أمتار من القماش ، ويحتاج الآخر إلى ثلاثة مثلاً ، فلا يلزم التسوية بينهم في ذلك ، لأنه هذا من قبيل الإنفاق وليس من جهة العطية والهبة ، وكذلك قد يكون أحدهم محتاجاً إلى الزواج ووالده قادر على تزويجه ، فيجب عليه أن يزوج ابنه ما دام أن الولد محتاج إلى الزواج ، وما يعطيه الوالد لولده من أجل تكاليف الزواج من باب النفقة ، وليس من باب الهبة والعطية ، وعلى ذلك فلا يلزم الوالد أن يعطي البقية مثل ما دفعه مهراً لأخيهم ، بل إذا قادراً على تزويجهم زوجهم كل حسب المهر المطلوب ، فالمهر ، قد يكون غالياً أو رخيصاً ، وكذلك لو احتاج أحد لأبناء إلى العلاج فدفع الأب تكاليف العلاج ، فإنه لا يلزمه أن يعطي بقية أولاده مثل ما دفعه لعلاج أخيهم لأن تلك التكاليف كانت لحاجة ، وكذلك ما يعطيه الأب لأولاده في المدارس من نقود فلا تجب التسوية بينهم في ذلك ، لأن طالب الابتدائي لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه طالب المتوسط والثانوي ، فقد يكفي أحدهم ريالين ، ولا تكفي الآخرين ، فقد يعطي الوالد أحد أبنائه ثلاثة ريالات ، ويعطي الآخر أربعة ، فهذه أمور احتياجية وليست من باب الهبة والعطية ، فالأمور بحسبها ، المقصود من ذلك ، أن هناك فرق بين النفقة والحاجة ، وبين العطية والهبة من حيث التسوية فيهما بين الأولاد .
لكن ثمة مسألة مهمة : وهي أن الأب قد يرسل أحد أبنائه لشراء شئٍ ما ، فيشتري الابن تلك السلعة ، ويبقى معه بعض النقود ، فهنا قد يقول الأب ، خذ الباقي ، فهذا لا يجوز حتى يعطي بقية أولاده مثله ، وإلا فإن الوالد يأخذ الباقي ، من باب العدل بين الأولاد .
الرجوع في الهبة :
واستكمالاً للموضوع ، لابد من معرفة الحكم الشرعي فيما إذا أراد الوالد الرجوع في هبته ، وكذلك الرجوع في الهبة عامة .
وهذه جملة من الأحاديث الدالة على تحريم ذلك :
1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه الذي كان عنده ، فأردت أن أشتريه ، وظننت أنه يبيعه برخص ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : " لا تشتره ، ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه " وفي لفظ : " العائد في هبته ، كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .2- وعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يعطي ولده " [ أخرجه الخمسة بسند صحيح ، انظر الإرواء 6/65 ] . 3- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته ، كالكلب يعود في قيئه " [ أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وغيرهم . انظر إرواء الغليل 6/64 ] .
قال الألباني رحمه الله تعالى في حديث ابن عباس :
الحديث بعمومه يفيد المنع من الرجوع في الهبة . [ السلسلة الضعيفة 1/540 ] .
وقال المبارك فوري في حديث ابن عباس :
الحديث دليل على تحريم الرجوع في الهبة ، ويستثنى منه الوالد فيما يعطي ولده ، للحديث الآتي ، وخالف ذلك الحنفية فذهبوا إلى حِل الرجوع في الهبة ، وقال بعضهم في تأويل هذا الحديث : إن قوله : " كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه " يدل على عدم التحريم ، لأن الكلب غير مكلف ، فالقيء ليس بحرام عليه ، قلت : لما كان الكلب غير مكلف لا يصح أن يقال إن القيء حلال له أو حرام عليه ، لأن التحليل والتحريم من فروع التكليف ، كما لا يصح في الشجر أو الحجر أن يقال إنه أعمى أو بصير ، لعدم كونه محلاً للعمى أو البصارة ، فلا يمكن أن يكون التشبيه في هذا الحديث من حيث التحليل أو التحريم ، ولما لم يمكن أن يكون التشبيه بأحد من هذين الوجهين ، لم يبق له دلالة على التحليل أو التحريم أصلاً ، والتحريم ثابت بالنص الصريح فتعين المصير إليه ، وأما التشبيه فهو لتقبيح هذا الحرام واستهجانه وإظهار شدة خبثه وفظاعته وسوء منظره ، وليت شعري كيف يرضى إنسان أن ينزل إلى درجة الكلب ، ثم إلى درجة أن يقيئ ثم يأكل قيئه . [ التعليق على بلوغ المرام 275 ] .
المقصود أن الحديث يدل على تحريم الرجوع في الهبة ، ولكن متى ؟ إذا قبضت ، وذلك مقتضى التشبيه ، أن تكون الهبة قد خرجت من يد الواهب وانفصلت ، لأن القيء قد انفصل من الكلب ثم رجع . فإذا وهب الإنسان شيئاً وأقبضه فإنه لا يجوز له أن يرجع فيه فإن رجع كان ذلك حراماً ، وأما قبل القبض فليس الرجوع فيها حراماً ، وليس من باب الرجوع في الهبة ولكن من باب إخلاف الوعد ، لأن من وعد وجب عليه الوفاء ، وكون الإنسان يقول لآخر سأعطيك كذا ، فهذا من باب الوعد فيلزم الوفاء به ، وإن أخلف الوعد فقد التحق بصفات المنافقين ، ولهذا زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفات المنافقين ، وحذر منها أشد تحذير ، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن المطلوب " ، وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن المطلوب ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " [ أخرجه البخاري ومسلم ، وزاد مسلم : " ولو صام وصلى وزعم أنه مسلم ] ، فالرجوع في الهبة حرام سواءً كان قبل القبض أو بعده وهذا هو الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله تعالى .
لكن يجوز الرجوع في الهبة إذا كانت على سبيل المعاوضة ، كأن يعطي إنساناً سيارة مثلاً على أن ينتظر منه أن يعطيه بدلها هدية أو يتقرب إليه للعمل عنده ، وكان معروفاً أن من قدم هدية يجزى عليها أو ما شابه ذلك . 
فالهبة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : هبة مطلقة لا تقتضي عوضاً ، لأنها عطية على وجه التبرع ، يقصد بها التودد ، سواءً كانت لمن دونه أو أعلى منه أو مثله وهي الأصل .القسم الثاني : هبة يقصد بها الثواب في الدنيا ، فهذه حكمها حكم البيع ، والغالب أن المهدي يقصد بها أن يُعطى أكثر مما أهدى ، لأن الغالب أن المُهدي فقير ، والمُهدى إليه أغنى منه ، وفيها نزل قوله تعالى : " ولا تمنن تستكثر " ، أي لا تعطي شيئاً لتأخذ أكثر منه . فينبغي لصاحب الهدية ألا يطمع في ابتزاز أموال الناس بل يقصد بهديته الأجر والمثوبة من عند الله تعالى ، لكن من أعطى هدية وهو يطمع في الثواب والعوض ، فالأفضل أن يُعطى حتى يرضى ، ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها ، فقال : رضيت ؟ قال : لا ، فزاده ، فقال : رضيت ؟ قال : لا ، فزاده ، فقال : رضيت ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد هممت أن لا أقبل إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي " [ حديث صحيح أخرجه أحمد وصححه ابن حبان . انظر بلوغ المرام ] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقحة فأثابه منها بست بكرات فتسخطها الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يعذرني من فلان أهدى إلي لقحة فكأني أنظر إليها في وجه بعض أهله ، فأثبته منه بست بكرات فتسخطها لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا أن تكون من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي " [ قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ] . ولكن يُشرع لمن أُهدي إليه هدية أن يثيب عليها ، لما جاء في الحديثين السابقين ، ولما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب عليها " [ أخرجه البخاري ] ، وغير ذلك من الأدلة الدالة على مكافئة صاحب المعروف ، ولا شك أن الهدية من المعروف ، لكن ينبغي لصاحبها ألا يطلب عليها أجراً أو ثواباً إلا من الله تعالى ، لكن إن كان صاحب الهدية يرجو ثوابها من المهدى إليه فله ذلك ، وإن لم يُعط بدلها فله الرجوع في هديته ، عن ابن عمر رضي الله عنهما . عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يُثب عليها " [ الحديث صحيح ولكنه موقوف على عمر رضي الله عنه ، قال ابن حجر في التلخيص : روي عن عمر رضي الله عنه ، وروي مرفوعاً وهو وهم ] ، فالحديث يدل على أن هبة الثواب الدنيوي أن يستردها صاحبها إذا لم يُثب عليها . [ انظر شرح ابن عثيمين على بلوغ المرام / باب الهبة ، مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/285وما بعده توضيح الأحكام 4/269 ، 280 ] .
وكذلك لا يجوز لمن وهب هدية أن يشتريها ممن أهداها له ، لحديث عمر بن الخطاب السابق ، كمن أهدى آخر سيارة وأراد المهدى إليه أن يبيعها ، فلا يجوز للمهدي أن يشتريها للحديث السابق ، لكن إن كان المهدى إليه باعها من غيره ، ثم أراد الثاني أن يبيعها فإنه يجوز للمهدي الأول أن يشتريها ، لأن الواهب اشتراها من غير الموهوبة له . [ فتاوى اللجنة الدائمة 16/184 ] .
العدل بين الزوجات :
الزواج راحة واطمئنان ، وسكن وبث للأحزان بين الزوجين ، فيجب على كل منهما احترام مشاعر الآخر ، وان يكون العدل والإحسان هو أساس البناء ، وأن يكون الشرع المطهر من الكتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هو أساس الحياة بين الزوجين ، حتى ينعم الجميع بالراحة والاستقرار .
والأصل في الزواج هو التعدد ، قال الله تعالى : " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا " [ النساء 3 ] . فالتعدد قضية محسومة من قبل الشرع ، ولا مجال للرأي فيها ، وهي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولكن ليس التعدد العشوائي هو ما حث على الكتاب والسنة ، بل التعدد وفق ضوابطه الشرعية ، ومن أعظم ذلك العدل بين الزوجات ، وألا يكون هناك ظلم لإحداهن بسبب الميل إلى الأخرى ، فمن رأى من نفسه عدم القدرة على العدل بين الزوجات أقول يحرم عليه أن يعدد ، حتى لا يوقع نفسه في الإثم والمعصية . ومن كان له زوجتان فأكثر فإنه يجب عليه أن يعدل بينهن ، ولا يحل له أن يخص إحدى زوجاته بشيء دون الأخرى من النفقة والسكنى والمبيت والهدية وغير ذلك ، لقد جاء التشريع بالتعدد في كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن أن يشرع المولى جل وعلا أمراً يكون في ضرر وظلم للناس ، إذ لا يُتصور ذلك أبداً ، ومن اعتقد مثل ذلك الأمر فقد هوى ، وزاغ عن الصراط المستقيم ، وكفر كفراً مبيناً ، فلما عُلم أن الشريعة الإسلامية قد أباحت التعدد ، عُلم بالضرورة أن في التعدد فائدة كبيرة وعظيمة ، وفيه خير وبركة للبشرية جمعاء ، بل فقدان التعدد سبب العديد من الكوارث والنكبات على مستوى المجتمعات ، وأوجد العديد من المشاكل والبلاقع التي تئن منها كثير من البيوتات ، لقد كثر العوانس والمطلقات في البيوت ، وعلى المرء المنصف الطالب للحق أن يعلم ذلك .
همسة في أذن المرأة :
على المرأة الصادقة مع الله تعالى أن تنظر إلى التعدد بعين العانس والمطلقة التي تبحث عن زوج وأسرة وأولاد ، فلا ينظر الإنسان إلى التعدد من زاوية واحدة فقط ، وهي ظروف الزوجة الأولى ، بل يجب أن لا يُغفل جانب المصالح العظيمة التي ترتب عليها تعدد الزوجات ومن أهمها امتثال أمر الله تعالى ، ومنها مصالح الزوجة الثانية ، فهذه المرأة الثانية التي سيأخذها الرجل زوجة ثانية ، هذه فرصتها ، فلماذا تضيع هذه الفرصة ، وإذا لم تتزوج بهذا الرجل فاتها قطار الزواج ، وربما تحرم من الذرية وبناء الأسرة المسلمة ، واللبنات الأولى في المجتمع المؤمن ، وما أثير من أن الزواج بأكثر من واحدة يجلب المشاكل ، فهذا أمر عار عن الصحة وبعيد عن الحقيقة ، فالرجل العاقل المؤمن المتتبع لكتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، يعلم علم اليقين أن ذلك هراء وكلام لا صحة له ، بل التعدد جزء من السعادة ، أما المشاكل فلا يخلو بيت منها على الإطلاق ، بل بعض الناس ليس له إلا امرأة واحدة ، ومع ذلك فهي تكيل له من العناء والتعب ما لا يعلم به إلا الله ، فأمر المشاكل ليس عائقاً عن التعدد بل هو أعظم السبل إلى التعدد ، لأن الرجل إلا لم يجد السعادة في بيت وجدها في الآخر ، وهناك من النساء من ترفض التعدد لا لشيء ، إلا لجهل منها بحكم الشرع في ذلك ، وحب للسيطرة والتملك ، ولو كان لديها بنات في سن الزواج وتقدم لخطبتهن رجال متزوجون لما رفضت ذلك إطلاقاً ، فكيف ترضى لبناتها ذلك ولا ترضاه لبنات المسلمين ، وهنا أمر مهم للمُعدد : هل التعدد تقليداً أم حاجة ؟ فإن كان التعدد هو التقليد فهذا قد يقع في الإثم والذنب وهو لا يشعر بذلك ، أما إن كانت هناك حاجة ملحة للتعدد فهذه هي السنة ، واعلمي أيتها المرأة أن التعدد خير لك من الطلاق ، فالطلاق يدمر الأسر ويزري بها ، ويضيع معه الأطفال ، وقد تصبح المطلقة ممن لا يرغب بالزواج منها أحد ، فالمرأة مهما بلغت من العلم ، والجاه والمنصب والمال ، فلا بد لها من الرجل ، فلا بد أن ترضى المرأة بذلك ولتعلم أن كل إنسان في هذه الدنيا لا يأخذ إلا نصيبه ، وما كُتب له منها .
وكم هن النساء اللاتي مررن بتجربة فاشلة مع الزوج الأول ، إما بسبب ظلمه وعناده ، أو لحمقه وجهله ، أو بسبب ضعف دينه وتعاطيه المحرمات ، فكل تلك الأمور وغيرها سبب للطلاق ، فهذه المطلقة لا ذنب لها ، فلا يمنع أن تجرب مع زوج آخر قد يكون فيه سعادة الأسر جميعاً .
أعود فأقول : أن المرأة العاقلة ذات الدين ، وصاحبة الخلق ، ومن تطيع ربها ، وتتبع سنة نبيها ، ومن تحب الخير لأخواتها ، وتريد الإيثار ، أقول : أن مثل هذه المرأة لا بد أن تعلم أن التعدد شُرع من أجل المصلحة الاجتماعية للفرد والأمة الإسلامية ، من التكاثر في النسل ، وإنقاذ الكثير من العوانس وانتشالهن من براثن أهل السوء ودعاة التبرج والإباحية .
العدل أساس التعدد :
وأساس التعدد العدل ، وقد جاء الوعيد الشديد لمن كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط " [ أخرجه الخمسة وغيرهم ، وصحح إسناده حمزة الزين في تحقيق المسند 9/390 ، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط 16/107 ] ، وفي رواية : " من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى ، جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلاً " والشك من أحد الرواة وهو يزيد [ أخرجه الخمسة وغيرهم ، وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق المسند 8/58 ، وصحح إسناده شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند 13/320 ] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وشقه مائل " [ أخرجه الخمسة وغيرهم وقد سبق ] ، وفي هذه الأدلة دليل على توكيد وجوب العدل بين الضرائر ، وأنه يحرم ميل الزوج لإحداهن ميلاً يكون معه بخس لحق الأخرى ، دون ميل القلوب ، فإن ميل القلب لا يُملك ، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي في القسم بين نسائه ويقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " [ أخرجه الخمسة ، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود صـ 164ـفحة ] ، وعلى ذلك فلا يحل لزوج أن يخص زوجة دون الأخرى بأي هبة أو هدية أو صدقة ، بل يجب عليه أن يعطي كل واحدة مثل ضرتها . إلا أن يسمح باقي الزوجات . [ فتاوى اللجنة الدائمة 16/189 وما بعدها ] .
وقال الخطابي رحمه الله :
في الأدلة السابقة دلالة على توكيد وجوب القسم بين الضرائر الحرائر ، وإنما المكروه ـ والكراهة هنا كراهة تحريم ـ من الميل ، هو ميل العشرة الذي يكون معه بخس الحق دون ميل القلوب ، فإن القلوب لا تُملك ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي بين نسائه ويقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " ، وفي هذا نزل قوله تعالى : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة " [ النساء 129 ] ، [ معالم السنن 3 / 188 ] .
يقول السيد قطب رحمه الله تعالى :
في تفسير قوله تعالى : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً " [ النساء 129 ] : إن الله الذي فطر النفس البشرية ، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها ، ومن ثم أعطاها خطاماً لينظم حركتها فقط ، لا ليعدمها ويقتلها .
من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات ، فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات ، وهذا ميل لا حيلة فيه ، ولا يملك محوه أو قتله ، فالله تبارك وتعالى لا يحاسبه على أمر خارج عن إرادته ولا حول له فيه ولا قوة ، فلا يكون الرجل موزعاً بين ميل لا يملكه ، وأمر لا يطيقه ، فأمر القلب خارج عن إرادة بني البشر فلا يملكه إلا الخالق سبحانه ، لكن هناك من العدل ما هو داخل في إرادتهم ، فهناك العدل في المعاملة ، والعدل في القسمة ، والعدل في المبيت ، والعدل في النفقة ، والعدل في الحقوق الزوجية كلها ، حتى الابتسامة في الوجه ، والكلمة الطيبة باللسان ، وهذا هو المطالب به الأزواج ، هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل وينظمه . [ في ظلال القرآن بتصرف 2/770 ] .
وقال ابن العربي :
قال محمد بن سيرين : سألت عبيدة ـ تابعي كبير ثقة ثبت ـ عن هذه الآية ـ يعني الآية السابقة ـ فقال : هو الحب والجماع .
وصدق فإن ذلك لا يملكه أحد ، إذ القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن ، يصرفه كيف يشاء ، وكذلك الجماع قد ينشط للواحدة ما لا ينشط للأخرى ، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه ، فإنه مما لا يستطيعه فلم يتعلق به تكليف . [ أحكام القرآن 1/550 ] .
وقال أبو بكر الجصاص :
يجب القسم بين النساء بالعدل ، وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أولى ، لقوله تعالى : " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها : " وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته " ، تسلية لكل واحد منهما عن الآخر ، وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر ، إذا قصدا بهذه الفرقة الخوف من الله تعالى بعد القيام بحقوق كل منهما للآخر . [ أحكام القرآن 2/356 ] .
قال الشيخ عبدالله البسام رحمه الله :
القسم واجب على الرجل بين زوجتيه أو زوجاته ، ويحرم عليه الميل إلى إحداهن عن الأخرى فيما يقدر عليه من النفقة ، والمبيت ، وحسن المقابلة ، ونحو ذلك . أما ما يتعلق بالقلب فيما لا يقدر عليه من المحبة والميل القلبي ، ولا ما يترتب عليه رغبة في جماع واحدة دون الأخرى ، فهذه أمور ليست في طوق الإنسان ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، وقال تعالى : " ولا تميلوا كل الميل " وفي ذلك دليل على المسامحة في بعض الميل ، وقال تعالى : " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " ، وقال تعالى : " لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " ، وعماد القسم الليل ، لأنه مأوى الإنسان إلى منزله ، وفيه يسكن إلى أهله وينام على فراشه ، والنهار للمعاش ، والاشتغال ، والنهار يتبع الليل فيدخل في القسم تبعاً ، لما روي أن سودة وهبت يومها لعائشة . [ متفق عليه ] ، وقالت عائشة : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي ، وإنما قبض نهاراً ، وهو تبع لليلة الماضية . [ توضيح الأحكام 4 / 515 ] .
وعن عروة رضي الله عنه قال : قال عائشة رضي الله عنها " يا ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً ، فيدنو من امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها " [ أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد حسن ، وصححه الحاكم ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يطوف على زوجاته ويتفقد أحوالهن ولكن من غير جماع ، أو مبيت ، ولا يكون مبيته إلا عند التي هو يومها ، وهذا من عدله صلى الله عليه وسلم ، وقسمه بينهن ، لأنه لو لم يتفقد أحوال الواحدة إلا في يومها ، لكان في ذلك مشقة عليهن لكثرتهن ، ولاحتياج كل واحدة لشيء من متطلبات الحياة ، فكان عليه الصلاة والسلام يطوف عليهن ويداعبهن ويلاطفهن من غير جماع ، وذلك لتطمئن نفوسهن ، مع أن الله تعالى لم يوجب على نبيه القسم بين نسائه وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، وله أن يرجي من يشاء منهن ويؤي إليه من يشاء ، وأن أعينهن قارة وراضية بذلك ، لأنه أمر الله تعالى ، ومع ذلك فكان عليه الصلاة والسلام أعدل الناس مع نسائه ، وأعظمهم قسماً لهن . وكان دورانه صلى الله عليه وسلم على نسائه بعد صلاة العصر ، ويشهد لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر دار على نسائه ثم يدنو منهن . . . الحديث " [ متفق عليه ] .
خاتمة :
هذا ما تيسر لي كتابته في هذا الموضوع الشائك الخطير ، والذي أجحف فيه كثير من الآباء والأمهات والأزواج ، ففضلوا بعض الأولاد على بعض ، مما أوقع الأبناء في العقوق ، وأوقع الآباء في تضييع الحقوق ، وفُضلت بعض الزوجات على بعض ، فألحق الجميع بأنفسهم الإثم والذنب ، فكانت كتابتي للموضوع من باب قوله تعالى : " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " ، لعل الله تعالى أن يكتب لهذا الموضوع النور ، كي يقرأه من لا علم له به ، ويسمعه من جهل به ، ويعيه من غفل عنه ، فيرتدع عما يفعله أو أقدم على فعله ، ويرد الحقوق إلى أهلها ، ويعطي كل ذي حق حقه ، لتعود الأمور إلى نصابها ، والموازين إلى استيفائها ، وهو سبحانه خير مسؤول ، وأعظم مأمول ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

استقرار المجتمع في عدالة الحكم


معاناة المجتمعات الإسلامية وأزماتها حالياً، والاضطرابات التي تعصف بها في مختلف الجوانب.. لها أسبابها الكثيرة على مستوى الفرد والجماعة. ومن أهم هذه الأسباب انحراف نظام الحكم عن مسار العدل والصلاح.
فكل مسؤول عن رعيته هو بمثابة القلب في مجتمعه الذي يديره، ورعيته هم أعضاء هذا المجتمع، فإذا فسد القلب فسدت كل الأعضاء.. وإذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت الرقص.. وإذا عقل واستقام عقلوا واستقاموا.
والظلم أسرع الطرق إلى الدمار والهلاك، سواء أكان ظلم المرء لنفسه أو لرعيته..
وبعد أن أرشدنا ديننا إلى طريق الحق والعدل والإصلاح مع النفس والناس نقل إلينا التاريخ الإسلامي حال من سبقونا، وانعكاس تعاملهم مع دينهم على واقع حياتهم ومجتمعاتهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وما يهمنا هنا هو أن حال المجتمعات الإسلامية السابقة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بسياسة ولاتها.. فكلما كانت سياسة الحاكم أو السلطان ملتزمة بشرع الله، وقائمة على إحقاق الحق وإصلاح الخلق كان المجتمع أكثر استقراراً ورخاءً وأمناً وقرباً من دينه.
وأبرز مثال على ذلك سيرة الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الذي يضرب به المثل في العدل والصلاح.
وظهر أثر ذلك جلياً على المجتمع الإسلامي في زمانه، حيث لم يُعرف بعد ذلك في تاريخ الأمة الإسلامية استقرار ورخاء كالذي عرفه المسلمون في زمن هذا الخليفة العظيم.
ومن خلال هذا التقرير نحاول أن نربط بين سيرة هذا الخليفة وحال مجتمعه.. وبذلك يمكن مقارنة ذلك بحالنا اليوم لمعرفة مكامن الخلل ومواطن الزلل.
نبذة عن الخليفة
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، أمير المؤمنين أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية.
كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاها منيباً، قانتا لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم مما أخذوه بغير حقٍّ.
والده عبد العزيز بن مروان بن الحكم كان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أميراً لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح. فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وقيل اسمها ليلى.
أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه الشريف أبو عمرو القرشي العدوي، ولد في أيام النبوة وحدّث عن أبيه. وأمه هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة. وكان طويلاً جسيماً وكان من نبلاء الرجال، ديِّنا، خيِّراً، صالحاً، وكان بليغاً، فصيحاً، شاعراً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأُمه، مات سنة سبعين.
واختلف المؤرخون في سنة ولادته، والراجح – كما نقل الدكتور الصلابي - أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين، ولأنه يؤيد ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة. حيث توفي عام 101هـ.
وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر وهذا القول ضعيف؛ لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز، ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبنو مروان في المدينة. وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد.
وكان عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يلقب بالأشج، وكان يقال له أشج بني مروان؛ وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى اصطبل أبيه - عندما كان والياً على مصر - ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد. ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر، هذا أشج بني مروان الذي يملك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً.
وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه، كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً.
نشأة عمر بن عبد العزيز
هناك عوامل وظروف ساهمت في بناء شخصية عمر بن عبد العزيز بناءً صالحاً، وقد استعرض الدكتور علي الصلابي هذه العوامل، يمكن تلخيصها – مع الاعتماد على مصادر تاريخية أخرى – على النحو التالي:
نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي ـ يريد عبد الله بن عمر ـ فتؤفف به ثم تقول له: أغرب أنت تكون مثل خالك، وتكرر عليه ذلك غير مرة.
فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أميراً عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا ابنة أخي هو زوجك فالحقي به. فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا - يريد عمر - فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه.. وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة.
وقد رزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة. وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير. وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب.
وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ.
ثم كان للبيئة الاجتماعية المحيطة دور فعال ومهم في نشأة شخصية عمر بن عبد العزيز، حيث عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة. فقد كان عدد من الصحابة لا زالوا بالمدينة.فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّ بأنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى.
فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية.
التربي على أيدي كبار علماء المدينة
اختار عبدُ العزيز صالحَ بن كيسان ليكون مربياً لولده عمر، فتولى صالح تأديبه.وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة فقال صالح بن كيسان: ما يشغلك؟، قال: كانت مرجّلتي تسكن شعري. فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟. فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك. فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه.
وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود ويخفِّف القيام، والقعود.. ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام.
ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز - الذين تأثر بهم -: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً، ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه، حتى وهو أمير المدينة.
وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:
بســم الذي أنزلت من عنــده الســـور   والحمد لله أمّا بعــد يا عمـــر
إن كنت تعلـــم ما تأتـــي ومـــــــا تذر    فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المحتوم وأرض به    وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامـــرئ عيش يُــــسرٌّ بــــه   إلا سيتبع يوماً صفـــوه كـــدر
وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ.
ومن شيوخ عمر سعيدُ بن المسيب، وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر. ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به وكان سالم أشبه ولد عبد الله به.
هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته. ومن الدروس المستفادة هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة، وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام وأهل الجاه والمال ففي صلاحهم خير عظيم للأمة الإسلامية
مكانته العلمية
كان من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام. وقال فيه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه. وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء. وقال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري.
وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله، ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس، وهي رسالة قصيرة، وفيها يحتج الليث - مراراً - بصحة قوله بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله.
ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل. وجعلوا له وصفاً وهو (عمر الصغير) ليتميَّز به عن جدّه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ويكثر الشافعية من ذكره في كتبهم؛ ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في تهذيب الأسماء واللغات.
وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في (الموطأ) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه. وأما الحنابلة فكذلك يذكرونه كثيراً. وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز
بعض سيرته
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء، وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة. ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه؛ مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته. ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسؤولية الملقاة على عاتقه. وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته، حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [كل راعٍ مسؤول عن رعيته]. }اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا{.
وفي ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ؛ وبذلك صار والياً على الحجاز كلها.واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً، ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة.
الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة؛ لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة.
فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة وفرح الناس به فرحاً شديد.
وكان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجة بن زيد بن ثابت. فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عاملٍ لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني.
وحدّد صلاحيات المجلس بأمرين:
- أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس.
- أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم. فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق.
ويعلق الصلابي على هذا التدبير بأنه قد تضمن أمرين:
- أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة؛ لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فما ندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.
- الثاني: أن عمر افترض غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: "أو برأي من حضر منكم.
إن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء. ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم، وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه ويشاورهم في أمور الرعية. كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح وتقليل ما يمكن من المفاسد. كما أن عمر بن عبد العزيز لم يقتصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم. وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد، وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم.
ومن مواقفه: كتب عمر بن عبد العزيز - وهو والٍ على المدينة - إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه.
حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز. وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحة وكان يظن بأن سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه.
لقد سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها. قال: ما يمنعك منها الآن؟. قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم. فمكث أياماً، ثم قال: يا غلام من بالباب؟، فقيل له: ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز. فقال: أدخله، فدخل عليه. فقال: نصيحتك يا أبا حفص، فقال عمر: إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسؤول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك، عليَّ بكتاب. فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه. وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟، أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟، فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره. ثم أن الحجّاج أرسل إلى أعرابي حروري من الخوارج. قال له الحجّاج ما تقول في معاوية؟، فنال منه. قال: ما تقول في يزيد؟، فسبه. قال: فما تقول في عبد الملك؟، فظلمه. قال: فما تقول في الوليد؟، فقال: أجوَرَهم حين ولاك، وهو يعلم عداءك وظلمك. فسكت الحجّاج وافترصها منه، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني، وأحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه. فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟، قال ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟، قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟، قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان اضرب عنقه فضرب عنقه. ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام اردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟ أصبنا أم أخطأنا؟، فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته. فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري، أفتستحل ذلك؟، قال لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً. فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك، وهكذا احتال الحجّاج على الوليد ليصرفه على الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل
وفي عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير، فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرب عمر بن عبد العزيز وأفسح له المجال واسعاً، حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به.
وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره، وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني. وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي.
وكان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة، ومن أهمها:عزل ولاة الحجّاج وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة خالد القسري، ووالي المدينة عثمان بن حيان، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها
الإشارة النبوية إلى خلافة عمر بن عبد العزيز
أفرد ابن كثير – في البداية والنهاية – فصلاً عن الإشارة النبوية إلى خلافة عمر بن عبد العزيز.
ومن ذلك حديث أبي إدريس الخولاني عن حذيفة قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل بعد هذا الخير من شر، قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير، قال: نعم وفيه دخن. قلت: وما دخنه، قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي يعرف منهم وينكر. فحمل البيهقي وغيره هذا (الخير الثاني) على أيام عمر بن عبد العزيز.
وروي عن الحاكم عن الأصم عن العباس بن الوليد بن مرثد عن أبيه قال: سئل الأوزاعي عن تفسير حديث حذيفة حين سأل رسول الله - صلى الله عليه و سلم - عن الشر الذي يكون بعد ذلك الخير، فقال الأوزاعي هي الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي مسألة حذيفة: فهل بعد ذلك الشر من خير؟، قال: نعم وفيه دخن. قال الأوزاعي: فالخير الجماعة، وفي ولاتهم من يعرف سيرته وفيهم من ينكر سيرته..
وروى أبو داود الطيالسي عن داود الواسطي عن حبيب بن سالم عن نعمان بن سالم عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: إنكم في النبوة ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها لكم إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة.
قال: فقدم عمر بن عبد العزيز ومعه يزيد بن النعمان، فكتبت إليه أذكره الحديث، وكتبته إليه أقول: إني أرجو أن تكون أمير المؤمنين بعد الخيرية. قال: فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر فسر به وأعجبه.
وقال نعيم بن حماد حدثنا روح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: قال عمر بن عبد العزيز: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عمر وعثمان وعلي. فقال لي: ادن، فدنوت حتى قمت بين يديه، فرفع بصره إلي وقال: أما إنك ستلي أمر هذه الأمة وستعدل عليهم.
وفي حديث أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، قال كثير من الأئمة إنه عمر بن عبد العزيز.
وروى نافع عن ابن عمر قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلاً بوجهه شين يلي فيملأ الأرض عدلاً. قال نافع من قبله ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
قال ابن كثير: قلت: وقد ولي عمر بن عبد العزيز بعد سليمان بن عبد الملك سنتين ونصفاً فملأ الأرض عدلاً وفاض المال حتى كان الرجل يهمه لمن يعطي صدقته.
خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99هـ
قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ.
ويروي ابن الأثير في تاريخه سبب استخلاف عمر بن عبد العزيز؛ "وذلك أن سليمان بن عبد الملك لما كان بدابق مرض.. فلما ثقُل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه، وهو غلام لم يبلغ. فقال له رجاء بن حيوة: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟، إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على الناس الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر. ولم أعزم.
فمكث سليمان يوماً أو يومين ثم خرقه ودعا رجاء، فقال: ما ترى في ولدي دواد؟، قال رجاء: رأيك. قال: فكيف ترى في عمر بن العزيز؟، قال رجاء: فقلت: أعلمه والله خيراً فاضلاً سليماً. قال سليمان: هو على ذلك ولئن وليته ولم أول أحداً سواه لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده. وكان عبد الملك قد عهد إلى الوليد وسليمان أن يجعلا أخاهما يزيد ولي عهد، فأمر سليمان أن يجعل يزيد بن عبد الملك بعد عمر، وكان يزيد غائباً في الموسم. قال رجاء: قلت رأيك. فتكب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة بعدي ومن بعدك يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب.
وأرسل إلى كعب بن جابر العبسي صاحب شرطته فقال: ادع أهل بيتي. فجمعهم كعب. ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذهب بكتابي إليهم و أخبرهم بكتابي ومرهم فيبايعوا من وليت فيه.
ففعل رجاء، فقالوا: ندخل ونسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فدخلوا، فقال لهم سليمان: في هذا الكتاب، وهو يشير إلى الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة، عهدي فاسمعوا وأطيعوا لمن سيمت فيه. فبايعوه رجلاً رجلاً وتفرقوا.
وقال رجاء: فأتاني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئاً من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ذلك. قال رجاء: ما أنا بمخبرك حرفاً قال: فذهب عمر عني غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك فقال: إن لي بك حرمةً ومودةً قديمةً، وعندي شكر فأعلمني بهذا الأمر، فإن كان إلى غيري تكلمت والله علي أن لا أذكر شيئاً من ذلك أبداً. قال رجاء: فأبيت أن أخبره حرفاً، فانصرف هشام وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذاً نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة فيقول حين يفيق: لم يأن بعد. ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئاً، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فحرفته، فمات، فلما غمضته وسجيته وأغلقت الباب أرسلت إلي زوجته فقالت: كيف أصبح؟، فقلت: هو نائم قد تغطى. ونظر إليه الرسول متغطياً فرجع فأخبرها، فظنت أنه نائم، قال: فأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يبرح ولا يترك أحداً يدخل على الخليفة.
قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن جابر فجمع أهل بيت سليمان، فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا. فقالوا قد بايعنا مرة. قلت: وأخرى، هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا الثانية، فلما بايعوا بعد موته رأيت أني قد أحكمت الأمر فقلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقرأت الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز قال هشام: لا نبايعه والله أبداً. قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: فأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطأه. فبايعوه.
وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز ودفن. فلما دفن أُتِيَ عمر بمراكب الخلافة ولكل دابة سائس. فقال: ما هذا؟، فقيل: مراكب الخلافة. قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته وصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائراً، فقيل له: أمنزل الخلافة؟، فقال: فيه عيال أبي أيوب، يعني سليمان، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا. فأقام في منزله حتى فرغوه.
قال رجاء: فأعجبني ما صنع في الدواب ومنزل سليمان، ثم دعا كاتباً فأملى عليه كتاباً واحداً وأمره أن ينسخه ويسيره إلى كل بلد.
وبلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائباً، عن موت سليمان، ولم يعلم ببيعة عمر، فعقد لواء ودعا إلى نفسه، فبلغه بيعة عمر بعهد سليمان وأقبل حتى دخل عليه. فقال له عمر: بلغني أنك بايعت من قبلك وأردت دخول دمشق. فقال: قد كان ذاك وذلك أنه بلغني أن سليمان لم يكن عهد لأحد فخفت على الأموال أن تنهب. فقال عمر: لو بايعت وقمت بالأمر لم أنازعك فيه ولقعدت في بيتي. فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولي هذا الأمر غيرك، وبايعه، وكان يرجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده.
فلما استقرت البيعة لعمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك: إن أردت صحبتي فردي ما معك من مال وحلي وجوهر إلى بيت مال المسلمين فإنه لهم، فإني لا أجتمع أنا وأنت وهو في بيت واحد. فرددته جميعه.
فلما توفي عمر وولي أخوها يزيد رده عليها وقال: أنا أعلم أن عمر ظلمك. قالت: كلا والله. وامتنعت من أخذه وقالت: ما كنت أطيعه حياً وأعصيه ميتاً. فأخذه يزيد وفرقه على أهله.
صعد عمر المنبر، وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فولّ أمرنا باليُمن والبركة.
ولما أدرك أن الأمر لا بد منه بدأ في طرح منهجه وسياسته، فقال: أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب. ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة. ألا إني لست بقاض، ولكني منفذ. ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع. ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله. ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً. أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف. واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر ديناه. وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم. وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات. وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم. وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً.
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له. أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال. ثم نزل.
وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم (الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين).
ويظهر من هذه الخطبة:
- التزامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع والدين، على أساس أنه حاكم منفذ، وأن الشرع بيّن من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله، ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.
- حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب ذكرها في الخطبة.
لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية، وعلى أسلوب الحكم؛ فآثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى في نطاق شرع الله، دون أن يبعدهم نهائياً؛ لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير ويعينوه عليه، وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج.
- حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت، ويتعظوا به.
- قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى. هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد، بعد بيعته. فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك، ففصّل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله. وقد كانت هذه الكتب نوعين:
- كتب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي والخاص.
وكتب إلى عماله يحدد سياستهم وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام.
العدل أساس الحكم
التزم أمير المؤمنين عمر بمبدأ العدل على أتم وجه، وكان يرى أن المسؤوليةوالسلطة في نظر عمر هي القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة، وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة.
كتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً ووضعته كرهاً وربته طفلاً، تسهر بسهره وتسكن بسكونه. ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده؛ يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين - فيما ملَّكك الله  -كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله.
وبدأ عمر بنفسه فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه. وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية، وعمالهم. وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد. قال عبد العزيز بن عمر: كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديداً.
وبعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك - وكان لها جوهر - فقال لها عمر: من أين صار هذا المال إليك؟، قالت: أعطانيه أمير المؤمنين. قال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت.
وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله: قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك فلعمري ليردنه إليك. قالت له: أفعل ما شئت.
ثم تحول إلى بني عمومته وإخوته من أفراد البيت الأموي. وفور فراغه من دفن ابن عمه سليمان بن عبد الملك رأى ما أذهله، وهو أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين. فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم.
فأمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين.
ثم اتجه إلى أبناء البيت الأموي فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق.. وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسعاً النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا..
ولم تمض سوى أيام معدودات حتى يجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فيقول لهم عمر: والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه ثم يعود كما كان حياً. فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها.
ولم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بني أمية وردها إلى بيت المال، بل يخطو خطوة أخرى ويعلن لأبناء الأمة الإسلامية أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بني أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه.. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وبيّناتهم، وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى.
وذات يوم بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتصب أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إلي؟، قال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي، وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟. فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك. ثم ما لبث أن أمر له بستين درهماً كتعويض له عن نفقات سفره.
وما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات.. وذات يوم قدم عليه نفر من المسلمين وخاصموا روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت قد قامت لهم البينة عليه. فأمر عمر روحاً برد الحوانيت إليهم، ولم يلتفت لسجل الوليد، فقام روح فتوعدهم، فرجع رجل منهم وأخبر عمر بذلك، فأمر عمر صاحب حرسه أن يتبع روحاً فإن لم يرد الحوانيت إلى أصحابها فليضرب عنقه، فخاف روح على نفسه وردّ إليهم حوانيتهم.
عزله جميع الولاة والحكام الظالمين
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة عمد إلى جميع الولاة والحكام المسؤولين الظالمين فعزلهم عن مناصبهم، ومنهم خالد بن الريان، وصاحب حرس سليمان بن عبد الملك الذي كان يضرب كل عنق أمره سليمان بضربها. وعين محله عمرو بن مهاجر الأنصاري، فقال عمر بن عبد العزيز: يا خالد ضع هذا السيف عنك، اللهم إني قد وضعت لك خالد بن الريان، اللهم لا ترفعه أبداً. ثم قال لعمرو بن مهاجر: والله إنك لتعلم يا عمرو إنه ما بيني وبينك قرابة إلا قربة الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة. خذ هذا السيف قد وليتك حرسي. وهكذا يعزل عمر الظالمين وهذا أسلوبه في اختيار الولاة والقضاة والكتاب وغيرهم، إنه يبحث عن أصلح الناس ديناً وأمانة.
ولما انتقد أحد ولاته الذين اختارهم نكت بين عينيه بالخيزرانة في سجدته وقال: هذه غرتني منك، يقصد أثر السجود في وجهه.. وعمر لا يكتفي بمظهر الرجل ولكنه يختبره أيضاً. قد رأى رجلاً كثير الصلاة، وأراد أن يمتحنه ليوليه، فأرسل إليه رجلاً من خاصته فقال: يا فلان إنك تعلم مقامي عند أمير المؤمنين فمالي لو جعلته يوليك على أحد البلدان؟، فقال الرجل: لك عطاء سنة. فرجع الرجل إلى عمر، وأخبره بما كان من هذا الرجل، فتركه.
معاملته لأهل الذمة
زاد عبد الملك في عهده الجزية على أهل قبرص وكان معاوية بن أبي سفيان غزا قبرص بنفسه وصالحهم صلحاً دائماً على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين، وإنذارهم عدوهم من الروم. ولم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فزاد عليهم ألف دينار، فجرى ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم.
 كما أصابت الزيادة أهل الذمة في العراق، وقد وضعها عنهم عمر بن عبد العزيز كسياسة عامة التزم بها في أن يرفع المظالم عن أهل الذمة حتى يدعهم ينعمون بحياتهم في ظل الشرائع الإسلامية السمحة. وقد جاء في كتابه إلى عامله على البصرة عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتياً، وخسراناً مبيناً، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم. وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.
كما بلغت سياسة عمر بن عبد العزيز في وضع المظالم عن الناس ومساعدتهم أيضاً حين كتب إلى عامله على الكوفة يقول: انظر من كانت عليه جزية فضعُفَ عن أرضه فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين. وقد أمر عمر ولاته بالأخذ بالرحمة والرأفة بالناس، فقد منع تعذيب أهل البصرة وغيرهم لاستخراج الخراج منهم، وعندما أرسل إليه عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: إن أناساً قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شيء من العذاب فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر كأني جنة لك من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، وإذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك فاقبله عفواً وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقاه بعذابهم. والسلام.
مفهوم الحريات عند عمر بن عبد العزيز
اهتم عمر بكافة صور الحرية الإنسانية، فجاء مستعرضاً لأنواع وصور الحرية، فأقر ما كان فيها موافقاً لتعاليم الإسلام، وأعاد ما لم يكن كذلك إلى دائرة التعاليم الإسلامية.
ومن ذلك سياسته حيال النصارى واليهود كانت تلتزم بالوفاء بالعهود والمواثيق وإقامة العدل معهم ورفع الظلم وعدم التضييق عليهم في معتقدهم ودينهم انطلاقاً من قوله تعالى: }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ (البقرة، الآية: 256). وكان عمر ينهج أسلوب الدعوة مع ملوك الهند، والقبائل الخارجة عن الإسلام.
وأما حرية الفكر من حيث الرأي والتعبير، فقد أخذت نطاقاً واسعاً في إدارة الدولة، وقيادته لعماله ورعيته، فقد أتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه وأطلق للكلمة حريتها، وترك للناس حرية أن يقول كلٌ ما يريد. وقد عبر عن هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقوله: اليوم ينطق كل من كان لا ينطق، إذا لم يخالف الشرع.
كما أعلن عمر استئناف الحرّية السياسية التي منحها الإسلام للمسلمين إذ لإطاعة لا مخلوق في معصية الخالق، حتى وإن كان حاكما أو والياً. فقد أعلن عمر في أول يوم من أيام حكمه الحرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الإسلام لا يرضى السكوت عن الظلم. فقد خطب في الناس يوماً فقال: ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تسمون الهارب من ظلم إمامه: العاصي، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم.
ومما يدل على إعطاء عمر للناس الحرية السياسية أن أول إجراء اتخذه عقب إعلان العهد له بالخلافة تنازله في الخلافة، وطلب من الناس أن يختاروا خليفة، فإذا كانت الحرية السياسية تتجلى في ممارستها في موضعين: أولهما المشاركة في اختيار الحاكم عن طريق أهل الحل والعقد، وبيعة المسلمين ورضاهم. وثانيهما: إبداء الرأي والنصح للحكام، ونقد أعمالهم بمقاييس الإسلام فإن عمر قد مارس الحرية السياسية في هذين الموضعين فجعل لهم الخيار في توليه الخلافة قبل الوعظ والنصح.
أهم صفاته ومعالم تجديده
بما أودع الله فيه من الصفات الربانية استطاع عمر أن يقوم بمشروعه الإصلاحي ويجدد كثيراً من معالم الخلافة الراشدة التي اندثرت أمام زحف الملك العضوض. واستطاع أن يتغلب على العوائق في الطريق، وتوجت جهوده بنتائج كبيرة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. وأصبح منهج عمر بن عبد العزيز الإصلاحي التجديدي مناراً للعاملين على مجد الإسلام.
ومن صفاته شدة خوفه من الله تعالى: يقول عمر في كتاب له إلى يزيد بن المهلب: لو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج، واعتقال أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه. ولكنِّي أخاف - فيما ابتليت به  - حساباً شديداً، ومسألة عظيمة، إلا ما عافى الله ورحم.
وتقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك: والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحَنَّ الناس ولا خليفة لهم.
وقال مكحوللو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز. ولشدة خوفه من الله، كان غزير الدمع وسريعه، فقد دخل عليه رجل وبين يديه كانون فيه نار، فقال: عظني. قال: يا أمير المؤمنين ما ينفعك من دخل الجنة، إذا دخلت أنت النار، وما يضرّك من دخل النار، إذا دخلت أنت الجنة، قال: فبكى عمر حتى طفئ الكانون الذي بين يديه من دموعه.
زهده: فهم عمر بن عبد العزيز من خلال معايشته للقرآن الكريم ودراسته لهدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم لربه ظاهراً وباطناً.
قال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.وعن سالم بن زياد: كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين. وكان لا يلبس من الثياب إلا الخشن، وترك مظاهر البذخ والإسراف التي سادت قبله وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين.
تواضعه: مما يذكر من تواضع عمر جوابه لرجل ناداه: يا خليفة الله في الأرض، فقال له عمر: مه: إني لما ولدت أختار لي أهلي اسماً فسموني عمر، فلو ناديتني: يا عمر، أجبتك. فلما اخترت لنفسي الكُنى فكنيت بأبي حفص، فلو ناديتني يا أبا حفص أجبتك. فلما وليتموني أموركم سميتموني: أمير المؤمنين، فلو ناديتني يا أمير المؤمنين أجبتك. وأما خليفة الله في الأرض فلست كذلك، ولكن خلفاء الله في الأرض داوود والنبي - صلى الله عليه وسلم – وشبهه، مشيراً إلى قوله تعالى:}يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ{ (ص: آية :36).
ومن تواضعه أن نهى الناس عن القيام له، فقال: يا معشر الناس: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين. وكان يقول للحرس: لا تبتدئوني بالسلام، إنما السلام علينا لكم.
وكان عنده قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشى سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نكفيك؟، قال: وما ضرني؟، قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز.
ومن تواضعه أيضاً قال يوماً لجارية له:يا جارية روّحيني قال: فأخذت المروحة فأقبلت تروحه، فغلبتها عينها فنامت، فانتبه عمر، فإذا هو بالجارية قد احمّر وجهها، وقد عرقت عرقاً شديداً وهي نائمة، فأخذ المروحة وأقبل يروحها. فانتبهت، فوضعت يدها على رأسها فصاحت. فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحر ما أصابني، فأحببت أن أروحك مثل الذي روحتني.
حلمه وصفحه: كان لعمر بن عبد العزيز ابن له من فاطمة، فخرج يلعب مع الغلمان فشجه غلام، فاحتملوا ابن عمر والذي شجه فأدخلوهما على فاطمة، فسمع عمر الجلبة، وهو في بيت آخر فخرج، وجاءت امرأة فقالت: هذا ابني وهو يتيم، قال: أله عطاء؟، قالت: لا. قال: فاكتبوا في الذرية. فقالت فاطمة: فعل الله به إن لم يشجه مرة أخرى، فقال عمر: إنكم أفزعتموه.
وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبد العزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به فأحضر وجرِّد وشُدَّ في الحبال وجيء بالسياط، فقال: خلُّوا سبيله، ثم قال: أما أني لولا أن أكون غضباناً لسُؤْتُك، وتلا: [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ] (آل عمران، الآية: 134).
وروي أن رجلاً نال من عمر فلم يجبه. فقيل له: ما يمنعك منه؟، قال: التقيُّ مُلجم.
وعن حاتم بن قدامه أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو يخطب فقال له: أشهد أنك من الفاسقين، فقال له عمر: وما يدريك؟ وأنت شاهد زور فلا نجيز شهادتك.
وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة خرج ليلة في السحر إلى المسجد ومعه حرسي فمرا برجل نائم على الطريق فعثر به عمر. فقال له: أمجنون أنت؟، فقال عمر: لا. فهمَّ الحرسي به. فقال له عمر: مه، فإنه سألني أمجنون أنت؟، فقلت: لا.
وروي أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر فنال منه وأغضبه، فقال له عمر يا هذا أردت أن يستفزني الشيطان مع عزة السلطان أن أفعل بك اليوم ما تفعل بي غداً مثله. اذهب، غفر الله لي ولك.
سياسته الداخلية
تعتبر سياسة عمر بن عبد العزيز الداخلية من أهم الجوانب في خلافته، فقد كان - رحمه الله - إدارياً ممتازاً، ولا عجب في ذلك فقد عركته تجربة الإدارة منذ أن كان والياً على المدينة. ثم تكاملت عناصر التجربة بعد أن أصبح من أقرب الناس إلى سليمان بن عبد الملك، يرقب الحوادث عن قرب، ويتمرس على شؤون الدولة وتسيير دفة الحكم فيها. وما أن تولى مقاليد الخلافة حتى ذهب يبذل كل جهده، ويُفني ما تبقى من عمره في إصلاح أمور الدولة، واستقرار الأمن والرخاء في ربوعها، وتحقيق العدالة والكفاية في كل أرجائها.. وسد أبواب الفتن والصراعات الداخلية.
كموقفه من سب خليفة رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد كان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فترك ذلك وكتب إلى العمال في الآفاق بتركه، وقرأ عوضه: [إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى] (النحل:90 الآية). فحل هذا الفعل عند الناس محلاً حسناً، وأكثروا مدحه بسببه، فمن ذلك قوله كُثيّر عَزّة:
وليت فلم تشتم علياً ولـن تخـــف   برياً ولم تتبع مقالـــة مجــــرم
تكلمت بالحــــق المبيـــــن وإنمــا   تبين آيــــات الهـــــــدى بالتكلم
وصدقت معروف الذي قلت بالذي  فعلت فأضحى راضياً كل مسلم
ألا إنما يكفي الفتـــى بعـــد زيغــه   من الأود البادي ثقاف المقـوم
فقال عمر حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذاً.
منهجه الإداري والاقتصادي
كان من أبرز معالم سياسته الداخلية الحرص على مال المسلمين، والمحافظة على الوقت والجهد، وسرعة التصرف في الأمور، وحسن اختيار القضاة والولاة والموظفين، وإزالة آثار كل عمل لا يساير روح الإسلام، وتحقيق التوازن بين الناس، ومجادلة الخارجين على الدولة بالحسنى لإقناعهم وردهم إلى حظيرة الجماعة، كما كان الطابع لهذا المنهج هو العدل والإنصاف والرحمة والإحسان.
كان عمر بن عبد العزيز يعرف قيمة المال والوقت، وهما من الأشياء التي يبددها المسلمون الآن فيما لا يفيد. ويعانون من جراء ذلك ما لا يخفى على أحد من التأخر والتخلف. ولكن عمر كان يعرف أن صيانة المال واحترام الوقت من أهم ما يحرص عليه الإسلام لترقي الأمة الإسلامية.
فعندما جاء إلى عمر كتابٌ من أبي بكر بن حزم - والي المدينة - يطلب ورقًا يكتب فيه أمور الولاية، كان رده عليه: "أَدِقَّ قلمك وقارِب بين أسطرك، فإني أكره أن أُخرج للمسلمين ما لا ينتنفعون به".
كما كتب إليه أيضاً: "أما بعد.. فإنك كتبت إلى سليمان كتباً لم ينظر فيها حتى قبض - رحمه الله - وقد بليت بجوابك. كتبت إلى سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين، ثمن شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء وصلاة الفجر. وتذكر أنه قد نفد الذي كان يستضاء به. وتسأل أن يقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال، وقد عهدتك وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج. ولَعَمْرِي لأنت يومئذٍ خيرٌ منك اليوم. والسلام".
فانظر إلى مدى بلغ حرصه على المال والوقت والجهد، وقد تبدو هذه الأمثلة بسيطة لبعض الناس، ولكنها عظيمة الدلالة على فهم المسلم لقيمة المال والوقت، وهما من مقومات الحياة.
ومن حرص عمر على الوقت أنه كان لا يعرف تأخير عمل اليوم إلى الغد، فيومه كله عمل. وعندما لاحظ عليه بعض أهله مظاهر الإرهاق من كثرة العمل تقدم إليه قائلاً: "يا أمير المؤمنين، لو ركبت - في نزهة – فَتَرَوَّحْتَ. أجابهم: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم؟، قال: تجزيه من الغد. أجاب عمر: فَدَحَني عمل اليوم، فكيف إذا اجتمع عليَّ عملُ يومين".
كما كان يعمل على سرعة تصريف الأمور، وكان يضيق بالعامل الذي لا يحسن التصرف أو ما نسميه اليوم بالبيروقراطي، الذي يحب أن يراجع رؤساءه في كل كبيرة وصغيرة. فقد كتب إلى عامله على المدينة: " أن قَسِّمْ في ولد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار. فكتب إليه: إن عليًّا قد وُلِدَ له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده؟، فكتب إليه: لو كتبت إليك في شاة تذبحها لكتبت إليَّ: أسوداء أم بيضاء؟. إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد علي من فاطمة - رضوان الله عليهم - عشرة آلاف دينار فطالما تخطتهم حقوقهم".
وكان عمر بن عبد العزيز غير راضٍ عن الأسلوب الذي يدير به بعض عمال بني أمية أمور الدولة، أو لا يتفق أسلوبهم الإداري مع نهج عمر، مثل يزيد بن المهلب وآله، الذين كان عمر يقول عنهم: هؤلاء جبابرة ولا أحب مثلهم. ولكن هؤلاء كانوا رجال سليمان بن عبد الملك فأبقى عليهم، فلما آلتِ الخلافة إلى عمر قرر أن يقصي كل عامل لا يرتاح إليه؛ فعزل يزيد بن المهلب وأمثاله، وانتقى أفضل وأصلح الرجال وولاهم الأعمال. ويبدو جليًّا من استعراض أسماء الولاة والقضاة، وسائر الموظفين الذين اختارهم عمر بن عبد العزيز، حرصه على الاعتماد على أكثر العناصر كفاءة وعلمًا وإيمانًا وقبولاً لدى جماهير المسلمين.
ولم يكن عمر يكتفي بحسن الاختيار بعد الابتلاء، بل كان يتابع عماله ويرسم لهم المنهج الذي ينبغي عليهم أن يطبقوه ليقيموا العدل بين الناس.
فقد كتب إلى عامله على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب: "سلام عليك، أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك فإنه لا قليل من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر، ولا عامراً على خراب. انظر الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر. ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض. فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله. ولا تعجل دوني بقطع ولا صَلْب، حتى تراجعني فيه، وانظر من أراد أن يحج من الذرية فعجِّل له مائة يحج به. والسلام".
ومن الآثار السيئة التي وجدها عمر وحرص على إزالتها بكل عزم وتصميم ظاهرة أخذ الجزية من الذين أسلموا حديثاً، فقد كان بعض عمال بني أمية لما أعوزهم المال بسبب الحروب والثورات، أبقوا الجزية على من كانوا يدخلون في الإسلام من أبناء البلاد المفتوحة. وزعموا أن إسلام هؤلاء لم يكن صادقاً، وأنّ إعفاءهم من الجزية قد أضرَّ ببيت المال. وابتدعوا بدعة اختبار من أسلموا بالختان. ولكن عمر حذرهم من ذلك.
فقد كتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي - والي خراسان -: "انظر من صلَّى قبلك إلى القبلة فضع عنه الجزية"؛ فسارع الناس إلى الإسلام. فقيل للجراح: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفوراً من الجزية، فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر. فكتب عمر إليه: "إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه خاتناً".
وعزل الجراح عن خراسان وولى عبد الرحمن بن نعيم القشيري. ثم ولى على الخراج عقبة بن زرعة الطائي. وكتب إليه: "إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب المال ركن، والركن الرابع أنا. وليس ثغر من الثغور المسلمين أهم إليَّ، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان؛ فاستوعب الخراج وأحرزه في غير ظلم. فإن يك كفافاً لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإذًا فاكتب إليَّ حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم".
فالمال مهم، ولكن العدل أهم عند الخليفة عمر؛ لأن المال وجبايته عنده وسيلة، وليست غاية.
وقد استطاعت سياسته المالية القضاء على الفقر، وحققت التوازن بين الناس، حتى لم يعد هناك فقير يحتاج إلى الصدقة. فيروي الذهبي عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمر بن أسيد قال: "والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون. فما يبرح حتى يرجع بماله كله؛ قد أغنى عمر الناس".
وقد كان لعمر أهداف في سياسته الاقتصادية، كلها تصب في خدمة الأمة، منها:
إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل: فقد سعى عمر بن عبد العزيز لإعادة توزيع الدخل والثروة بالشكل العادل، الذي يرضى الله تعالى ويحقق قيم الحق والعدل والظلم، والتي وضعها عمر نصب عينيه فقد كان يراقب الانحرافات السابقة قبل خلافته، ويلاحظ آثارها السلبية على نفوس الرعية. ولقد انتقد سياسة سليمان بن عبد الملك التوزيعية فقال له: لقد رأيتك زدت أهل الغنى وتركت أهل الفقر بفقرهم. فقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن التفاوت الاجتماعي هو نتيجة لسوء توزيع الثروة، فرسم سياسته الجديدة لإنصاف الفقراء والمظلومين.
واستخدم عمر للوصول إلى هذا الهدف بعض الوسائل العملية، منها:
- منع الأمراء والكبراء من الاستئثار بثروة الأمة، ومصادرة الأملاك المغصوبة ظلماً، والتي استولى عليها الأمراء والكبراء، وإعادة هذه الأموال إلى أصحابها إذا عرفوا أو إلى بيت المال إذا لم يعرف أصحابها، أو كانت من الأموال العامة.
- زيادة الإنفاق على الفئات الفقيرة والمحرومة ورعايتها وتأمين مستوى الكفاية لها عن طريق الزكاة وموارد بيت المال الأخرى.
وعن الزهري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب في الصدقات. فكتب إليه بالذي سأل، و كتب إليه: إنك إن عملت بمثل عمل عمر في زمانه ورجاله في مثل زمانك ورجالك كنت عند الله خيراً من عمر.
ولقد كانت سياسة عمر التوزيعية تهدف على إيصال الناس إلى حد الكفاية: يلاحظ ذلك من خطبه، فقد خطب الناس يومياً فقال: "وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم؛ حتى نستوي نحن وهم، وأكون أنا أولهم". وفي خطبة أخرى: "ما أحد منكم تبلغني حاجته إلا حرصت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه. وما أحد لا يسعه ما عندي إلا وددت أنه بُدِئ بي وبلحمتي الذين يلونني؛ حتى يستوي عيشنا وعيشكم".
- تحسين موارد الدولة وضبطها بالضابط الشرعي، ومن أهم هذه الموارد:
الزكاة
اهتم عمر بالزكاة وحرص عليها؛ لأنها حق فرضه الله للفقراء والمساكين والمنقطعين، والمستعبدين، ولا يجوز التهاون فيه، واهتمّ بتوزيعها على مستحقيها. فأمر ولاته بالبحث عنهم وإعطائهم حقهم وفي حالة عدم وجود فقراء أو مساكين أو محتاجين وأمر عمر بشراء رقاب المستعبدين وإعتقاهم من مال الزكاة. وعزم عمر على اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة. وكان الولاة قبله قد تهاونوا فيها، فأخذوها من غير حقها، وصرفوها في غير مصارفها.
ومن مظاهر إتباعه للسنة فيها طلبه لكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، ولكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأمره بأن تنسخ هذه الكتب. فنسخت له وكانت تشتمل على صدقة الإبل والبقر والغنم، والذهب، والورق، والتمر، والحب، والزبيب وبيّنت الأنصبة لكل هذه الأصناف.
واتبع عمر السنة في مصارف الزكاة وفي جبايتها؛ فعين عمالاً ثقاة مؤتمنين وأمرهم بجبابتها دون ظلم أو تعدِّ، وأمرهم بكتابة براءة إلى الحول لدافعها.
وكانت لهذه الإصلاحات الاقتصادية في جباية الزكاة أثر على زيادتها ولقد ساهمت سياسته الاقتصادية إلى زيادة تحصيل الزكاة. فتوفيره لأجواء الأمن والطمأنينة، واهتمامه بإقامة المشاريع الأساسية للزراعة والتجارة، واتباعه لسياسة الحرية الاقتصادية المقيدّة، وإلغاؤه للضرائب الظالمة؛ أدّت جميعاً إلى ازدهار التجارة والزراعة وإلى زيادة حصيلة الزكاة.
الخراج
هو ما تأخذه الدولة من ضرائب على الأرض المفتوحة عنوة أو الأرض التي صالح أهلها عليها. لقد ارتفع إيراد الخراج في زمن عمر بن عبد العزيز وبلغ مائة وأربعة وعشرين مليون درهم. وكانت هذه الزيادة في إيراد الخراج نتيجة لسياسته الإصلاحية؛ فقد منع بيع الأرض الخراجية فحافظ على المصدر الرئيسي للإنتاج. كما اعتنى بالمزارعين، ورفع عنهم الضرائب والمظالم التي كانت تعوق إنتاجهم. واتبع سياسة الإصلاح والإعمار، وإحياء الأرض الموات. كما اهتم ببناء مشاريع البنية الأساسية للقطاع الزراعي فبنى الطرق والقنوات.
وهناك مصادر أخرى للدولة كان يهتم بها عمر كالجزية، والغنائم والفيء، والعشور، لا يتسع المقام هنا لذكرها.
ومن أهدافه تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي: حيث سعى عمر بن عبد العزيز - عن طريق العديد من الوسائل – إلى تحقيق هذا الهدف. فقد أوجد المناخ المناسب للتنمية عن طريق حفظ الأمن والقضاء على الفتن، ورد الحقوق لأصحابها؛ وبذلك باتت الرعية مطمئنة على حقوقها، آمنة في أوطانها. كذلك أمر ببناء المرافق العامة، التي تسمى اليوم بمشاريع البنية التحتية، ولا تقوم التنمية إلا بهذه المرافق الضرورية من أنهار وترع ومواصلات وطرق. وقد أكد عمر على مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة بضوابط الشريعة، فانتشر الناس في تجارتهم وتثمير أموالهم. واهتم كذلك اهتماماً بالغاً بالزراعة؛ حيث كان القطاع الزراعي من أكبر القطاعات على المستوى الفردي، وله مردود كبير على ميزانية الدولة. وقد جنى عمر والأمة كلها ثمرات هذه السياسة؛ فقد عمّ الرخاء البلاد والعباد.
تعامله مع المخالفين
لما كان عمر يعتبر نفسه مسؤولاً عن الأمة كلها، فليس هناك أحد أولى به من أحد، وفي ضوء هذا التصور نظر إلى الخوارج، الذين ناصبوا الدولة الأموية العداء منذ قيامها، ولم يكد صراعهم معها ينقطع، وأدرك عمر أن هؤلاء الناس قد يكونون طلاب آخرة، ولكنهم قد أخطأوا الطريق إليها؛ فجاهدوا في غير ميدانها، وبددوا طاقاتهم وطاقات الدولة في حروب داخلية لا طائل من ورائها. بل كانت لها آثارها السيئة عليهم وعلى الدولة. فرأى من واجبه أن يبصرهم بخطأ موقفهم فدعاهم إلى محاورته، فاستجابوا، وأرسل له زعيمهم شوذب الخارجي اثنين من أتباعه ليحاوراه. وبدأ عمر الحوار قال لهم: "إني قد علمت أنكم لم تخرجوا مخرجكم هذا لدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة وأخطأتم طريقها. وإني سائلكم عن أمور فبالله لتصدقنني عنها".
وبدأ يسألهم وهم يجيبون، وظهرت حجته عليهم في جميع القضايا التي أثاروها إلا مسألة واحدة، وجد عمر نفسه عاجزاً عندها، وهي ولاية العهد ليزيد بن عبد الملك. فطلب منهم أن ينظروه ليفكر في الأمر، ورضي الرجلان بذلك، وقال له أحدهما: "ما سمعت كاليوم حُجَّةً أبين وأقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق، وأنا بريء ممن برئ منك. وأقام عند عمر ورفض العودة إلى الخوارج. أما الآخر فسأله عمر: فأنت ما تقول؟، قال: ما أحسنَ ما قلتَ، وأبينَ ما وصفتَ، ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر حتى أعرض قولك عليهم فأنظر ما حُجَّتُهم".
ولكن بقيت هذه المسألة معلقة دون حلٍّ؛ لأن عمر لم يكن قادرًا على تنحية يزيد من ولاية العهد؛ خوفًا من الفتنة في بني أمية.
لقد كان لتعامل عمر مع الخوارج أثره فيهم حيث لم يثوروا عليه. ويعلق الدكتور راغب السرجاني على ذلك بأن هذا "يبين أن هؤلاء القوم كانوا على غير هدى من الله يحتاجون إلى علاج، ولعلهم بعد ما لحق بهم من ضربات كانوا على استعداد للاندماج في الأمة لو وجدوا بعد عمر من يواصل أسلوبه معهم، ولكن أني للخلافة مثل عمر".
منهجه في القضاء
يعتبر القضاء من أكثر وسائل نظام الحكم تأثيراً في حياة المجتمعات إيجاباً أو سلباً بحسب درجة قرب القضاء من العدل وبُعدِه.
فكلما كان نظام القضاء أكثر عدلاً كانت حياة الناس أكثر استقراراً  وأمناً.. والعكس صحيح.
وما تعانيه المجتمعات الإسلامية اليوم من مآسي وظلم وخوف وصراعات هو من تداعيات فساد الحكم وظلم القضاء.
وقد روى الإمام السيوطي عن حسن القصاب قوله: رأيت الذئاب ترعى مع الغنم بالبادية في خلافة عمر بن عبد العزيز فقلت: سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها. فقال الراعي: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس.
وقال مالك بن دينار: لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء: من هذا الصالح الذي قام على الناس خليفة؟، عدله كف الذئاب عن شائنا.
وقال موسى بن أعين: كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الشاة والذئب ترعى في مكان واحد. فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب للشاة، فقلت: ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك فحسبوه فوجدوه مات تلك الليلة.
وعن حبيب بن هند الأسلمي قال: قال لي سعيد بن المسيب: إنما الخلفاء ثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعمر بن عبد العزيز. قلت له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما فمن عمر؟، قال: إن عشت أدركته وإن مت كان بعدك. قلت: ومات ابن المسيب قبل خلافة عمر.
وهذا ما نجد نقيضه عند مقارنة الوضع اليوم بالوضع في زمن عمر بن عبد العزيز الذي كان يدقق في اختيار القضاة حتى لا يُبتلى الناس بقاض يتخبط فيهم بغير حق، ويسري الظلم بين الناس.
ولهذا فقد اشترط عمر في القاضي خمسة شروط ولا يجوز له أن يلي القضاء حتى تكتمل فيه هذه الشروط، وهي: العلم، والحلم، والعفة، والاستشارة، والقوة في الحق.
فعن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: "لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي ملامة الناس".
وقد قال بهذا المعنى عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، وذهب الأئمة الأربعة إلى موافقة عمر بن عبد العزيز في كل أو جل هذه الصفات.
وقرر عمر بن عبد العزيز قراراً هو درس في القضاء يجب أن يعمل به إلى يوم القيامة، ذلك أنه يرى أن القاضي إن تبين له الحق حكم به، وإن لم يظهر له فلا يترك القضية، وإنما يرفعها إلى من هو فوقه لينظرها.
عن ميمون بن مهران أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يشكو شدة الحكم والجباية (وكان قاضي الجزيرة وعلى خراجها). قال: فكتب إليه عمر: "إني لم أكلفك ما يُعنتك، أجب الطيب، واقض بما استبان لك من الحق. فإذا التبس عليك أمر فارفعه إليّ. فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمرٌ تركوه، ما قام دين ولا دنيا".
ومن سياسته في القضاء كتب عمر بن عبد العزيز: "من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد. أما بعد.. فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره، وأن تبتلي به فرأيت منه سوء رِعة، وسوء سيرة في الحق عليه، والحظ له، فسدده ما استطعت وبصره وأرفق به وعلمه. فإن اهتدى وأبصر وعلم كانت نعمة من الله وفضلاً. وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه. فإن رأيت أنه أتى ذنباً استحل فيه عقوبة فلا تعاقبه بغضب من نفسك، ولكن عاقبه وأنت تتحرى الحق على قدر ذنبه بالغاً ما بلغ، وإن لم يبلغ ذلك إلا قدر جلدة واحدة تجلده إياها. وإن ذنبه فوق ذلك، ورأيت عليه من العقوبة قتلاً فما دونه فأرجعه إلى السجن، ولا يسرعن بك إلى عقوبته حضور من يحضرك".
وكان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه كراهة أن يعجل في أول غضبه.
وعن أبي عقبة أن عمر بن عبد العزيز قال: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة، فإن الوالي إذا أخطأ في العفو خير من أن يتعدى في العقوبة".
سياسته الخارجية
مثلما كان لعمر بن عبد العزيز وقفته في السياسة الداخلية، ليعيد ما اعوج من الأمور إلى نصابه، ويحاول إصلاح ما رآه انحرافًاً عن الجادة سواء في الناحية الإدارية أو المالية أو غيرها، كذلك كانت له وقفة مماثلة في السياسة الخارجية. فقد رأى أن مساحة الدولة قد اتسعت، وأن أطرافها قد ترامت وتباعدت، ولعل كثيراً من المشاكل والأخطاء التي وقع فيها بعض الولاة قد نشأت عن هذا الاتساع الكبير في مساحة الدولة، فكل إقليم كان يضيف إلى مشاكل الدولة عبئًا جديدًا. إلى جانب الأعباء المالية التي كانت تثقل كاهل خزينة الدولة.
فقد خاضت الدولة الأموية حروباً خارجية وداخلية كلّفت ميزانية الدولة الشيء الكثير، منها حملة القسطنطينية زمن سليمان بن عبد الملك، حيث كلفت الكثير من الأموال والشهداء دون جدوى. فما كان من عمر بعد استخلافه إلا أن أرسل كتاباً يأمر فيه مسلمة بن عبد الملك قائد الحملة بالعودة بعد أن أصاب الجيش ضيق شديد.
وقد أدّت سيرة عمر وسياسته إلى استقرار الأوضاع الداخلية، وتوقفت الحروب والفتن.
أيضاً نتج عن إيقاف الحروب والفتن إيجاد مناخ عام من الراحة والطمأنينة والاستقرار؛ ساهم في النمو الاقتصادي للدولة وتحسين أوضاع الطبقات الفقيرة والمحتاجة.
فرأى أنه من الحكمة إيقاف الفتوحات، أو الحد منها على الأقل؛ لأن التوقف عند حدود ما فتح من بلاد وأقاليم، والعمل على حَلِّ مشاكلها، وعرض الإسلام عليها بأسلوب حكيم دقيق، وقدوة حسنة، سوف يكون أجدى من المضي في الفتوحات. بل ربما لا تكون هناك حاجة بعد ذلك إلى فتح جديد؛ لأن الناس سيقبلون على الإسلام من تلقاء أنفسهم؛ لأنهم سيجدون فيه كل ما يرضيهم روحياً ومادياً، وما يحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وقد تحقق ما تصوره في ذلك وزادت حركة الإقبال على الإسلام في البلاد المفتوحة في عهده زيادة كبيرة. وأخذ عمر في إرسال الدعاة من خِيرَة العلماء ليدعوا الناس إلى الإسلام، بدلاً من إرسال الجيوش للفتح.
كما بدأ يرسل الكتب إلى الملوك والأمراء المعاصرين يدعوهم إلى الإسلام فأرسل إلى أمراء ما وراء النهر، وإلى ملوك السند، يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم على بلادهم، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، فلما وصلتهم رسائله وكانت قد بلغتهم سيرته وعدله، فقبلوا وأسلموا، وتسموا بأسماء عربية.. كما أرسل إلى إمبراطور الدولة البيزنطية يدعوه إلى الإسلام.
ولقد تمتَّع الخليفة عمر بن عبد العزيز بسمعة طيبة، تجاوزت حدود الدولة الإسلامية، فتروي المصادر التاريخية أنه حينما وصل الوفد الذين أرسلهم عمر إلى إمبراطور الروم لدعوته إلى الإسلام جاءت الأخبار إلى الإمبراطور من عيونه بوفاة عمر، فأرسل يستدعي رئيس الوفد، فلما مَثُلَ بين يديه سأله الإمبراطور: "أتدري لم بعثت إليك؟، قال: لا. فقال: إن صاحب مسلحتي كتب إليَّ أن الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز مات، قال: فبكيت واشتد بكائي، وارتفع صوتي، فقال لي: ما يبكيك؟، ألنفسِك تبكي أم له أم لأهل دينك؟. فقال: لكلٍّ أبكي. قال: فابكِ لنفسك، ولأهل دينك، أما عمر فلا تبكِ عليه، فإن الله لم يكن ليجمع عليه خوف الدنيا وخوف الآخرة. ثم قال: ما عجبت لهذا الراهب الذي تعبَّدَ في صومعته وترك الدنيا، ولكن عجبت لمن أتته الدنيا منقادة، حتى صارت في يده ثم تخلى عنها".
ثم يضيف الإمبراطور: "ولقد بلغني من بِرِّه وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى يحيي الموتى، لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطناً وظاهراً، فلا أجد أمره مع ربه إلا واحداً، بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه".
وفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز
لم تطل حياة عمر بن عبد العزيز طويلاً فقد اختطفته يد المَنُون ولم يتجاوز الأربعين من عمره، ويبدو أن انهماكه في أمور المسلمين ومتابعة السهر والعمل في شؤون الدولة، وعدم اهتمامه بأمر طعامه وشرابه، قد أثَّر على صحته فلم يعد جسمه يقوى على المقاومة والاحتمال.
وأما ما يرويه بعض المؤرخين من أن بعض بني أمية دَسَّ له السم فهذا أمر لم يقمْ عليه دليل، ويبدو أن هذا لم يكن سوى شائعة من تلك الشائعات التي رَوَّجَ لها أعداء بني أمية، فقد اتهموا معاوية بأنه دس السم للحسن بن علي وللأشتر النخعي، ولعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأن سليمان بن عبد الملك صنع هذا أيضاً مع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية.
وتوفي عمر بن عبد العزيز في شهر رجب سنة 101هـ، وكانت وفاته بدير سمعان من أعمال حمص، وتولى الخلافة بعده ابن عمه يزيد بن عبد الملك.
الخلاصة
خلاصة القول :عمل الخليفة عمر أولاً في بناء نفسه على أسس شرعية سليمة.. وبهذه الأسس انطلق في عمليات بناء مجتمعه..
وأكثر ما انطبع في سيرة عمر هو العدل في نظام الحكم وتطبيق كل معانيه على الرعية.
فنتج ذلك المجتمع الآمن الصالح والمستقر والغني روحياً ومادياً.. بل إن الأمة الإسلامية توسعت كثيراً دون فتوحات تذكر؛ وذلك بسبب تأثير سيرة هذا الخليفة في نفوس أبناء الأمم الأخرى.
ومقارنة حال مجتمعاتنا اليوم بحال المجتمع الإسلامي في عهد عمر بن عبد العزيز نجد أن التناقض بين الحالتين ناتج عن تناقض بين سلوك ذلك الخليفة وسلوكيات حكام زماننا..
بمعنى أن جزءاً كبيراً من علاج أوجاع الأمة يعتمد على الأسس التي نشأ عليها عمر بن عبد العزيز، والقواعد التي أرساها لنظام حكمه، والمبادئ التي طبقها في حياته السياسية والاجتماعية.